د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
لقد شعرت وأنا أحد الحاضرين في حفل ذلك المساء من يوم الثلاثاء من رجب 1438هـ الذي أقامه مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض بمناسبة افتتاح مركز الأورام وأمراض الكبد الجديد بأنه احتفال بعيد الميلاد الأربعيني لهذا المستشفى الذي أنشأه جلالة الملك فيصل -رحمه الله- ليكون صرحاً للطب التخصصي المتقدم في المملكة، بعد أن تحمّل مستشفى الرياض المركزي (الشميسي) القيام بأعباء هذا الدور طيلة ما يقارب العشرين عاماً. افتتح المستشفى عام 1395هـ، وصار يضمّ أقساماً تخصصية رئيسية من بينها طب الأورام، بالإضافة إلى مركز الأبحاث، وهو قسم مستقل تميّز بالنشاط البحثي وتمّ تجهيزه لإنتاج المواد والنظائر المشعة التي تستعمل للتشخيص والعلاج الإشعاعي. ومنذ إنشائه ظلّ مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث هو المرجع الوحيد والرائد في علاج السرطان بالمملكة. ولم تتغيّر مكانته طيلة تلك السنين، بل حتى بعد إدخال علاج الأورام في بعض المستشفيات التخصصية بالمملكة ظلّ هو المرجع الرئيسي في علاج السرطان. وعلى سبيل المثال: في عام 1422هـ أحالت إليه الهيئات الطبية (1260) مريضاً بالسرطان من بين (1500) مريض، وفي عام 1435هـ (3100) مريض من بين (8200) مريض - على الرغم من وجود أقسام لعلاج السرطان في أكثر من سبعة مستشفيات تخصصية بالمملكة. هذا المركز الجديد - وإن كان يسكن معه في المبنى الشاهق (23 دوراً) مركز أمراض الكبد - إلّا أن به ثلاثمائة سرير للتنويم و(96) سرير علاج وريدي، وهذا يضاعف العدد الذي كان متاحاً في مركز الملك فيصل للأورام الذي أنشئ كتوسعة للمبنى الرئيسي عام 1424هـ. ويتميّز المركز بتطبيق مبدأ توفير الخدمات للمريض في مكان واحد بالقسم الذي هو فيه، بحيث لا يحتاج إلى التنقل في أرجاء المستشفى للوصول إليها، وتوفير أحدث تجهيزات التشخيص والعلاج الإشعاعي والنظم الإلكترونية التواصلية مثل غرف المرضى الذكية التي تنقل بيانات المريض السريرية فوراً إلى ملفه الإلكتروني ليتخذ فريق العلاج الإجراء الطبي اللازم وغير ذلك. وكل ما ذكرته باختصار يعتبر تطويراً بالغ الأهمية يخدم المريض ويقلّص فترات الانتظار ويستوعب زيادة أعداد المرضى، ويستفيد من خبرة أكثر من أربعين عاماً في تقديم الرعاية الطبية المتميّزة، ويستجيب للنموّ المتسارع في التقدم الطبي واحتياجات المرضى. وهذا بالضبط هو ما يتطلّع المجتمع إلى أن يرى نتائجه واقعاً ماثلاً للعيان.
وأوّل هذه التطلعات ما يخص الوعد بالتغلّب على طول فترات الانتظار وتباعد المواعيد. وتلك مشكلة مزمنة في القطاع الصحي بأسره، لكنها مشكلة خطيرة فيما يتعلّق بعلاج السرطان، الذي لا يقف انتظاراً لموعد بعيد، بل يستشري حتى تتلاشى فرص الشفاء منه. وحقيقةً فإن فترات الانتظار الطويلة تهدم ركناً من أركان النظام الصحي، وهو تيسير الوصول إلى الخدمة الصحية والحصول عليها.
وثانى التطلعات يخصّ التميز المهنيّ للمستشفى. فهو سيدور في حلقة مفرغة إن بقي في دائرة المستشفى فقط. فلو استمرّ في قبول جميع درجات الأمراض السرطانية، فإنه سيضطرّ إلى الحدّ من استقبال الحالات التي قد يكون من بينها الأشدّ حاجة للعلاج. إذ يتبيّن من الإحصاءات أنه يُقبل سنوياً 25 % من مرضى الأورام البالغين، و40 % من الأطفال. ولعل افتتاح مراكز للأورام في بعض المستشفيات بالمملكة يفسح المجال أمام المستشفى التخصصي للتركيز على الحالات الشديدة أو النادرة أو المعقّدة، ويتيح الفرصة لعلاج غيرها من الحالات في مراكز الأورام الأخرى؛ ويتزامن مع هذا النمط من التعاون إنشاء برنامج لتدريب وتأهيل أطباء وأخصائيي تقنية طبية وتمريض من تلك المراكز الناشئة لينهلوا من معين خبرة المستشفى وأنظمته العلاجية المتطورة. ولأن مستشفى الملك فيصل التخصصي هو الرائد حقاً في علاج الأورام بالمملكة فإنه يكون بمثابة الأخ الأكبر للمستشفيات التي تريد أن تبني قدراتها في علاج الأورام. ولا شك أن بناء شبكة من مراكز الأورام المتعاونة هو خير وسيلة للتعامل مع الأعداد المتزايدة سنوياً من حالات السرطان. ولا يجب أن تدهشنا هذه الزيادات، فإن وراءها ثلاثة عوامل على الأقل، هي: زيادة السكان - وطول الأعمار - والملوّثات البيئية.
وثالث التطلعات هو تحقيق المزيد والمزيد من التميّز، حتى لا نرى المئات من المرضى يطلبون العلاج في الخارج. ففي عام 1422هـ أُرسل للعلاج في الخارج (152) حالة سرطانية، وفي عام 1435هـ (966) حالة، أي زادت بمقدار ستة أضعاف - على الرغم من توسّع المستشفى في خدمات علاج السرطان (مركز الملك فيصل للأورام عام 1424هـ ومركز الملك فهد لسرطان الأطفال). وأهمّ الأسباب يعود إلى زيادة حالات السرطان بما يتجاوز قدرة المستشفى على الاستيعاب ويطيل فترات الانتظار، أو أن الحالات ترد للمستشفى في مراحل متأخرة فيصعب علاجها، وربما يكون هناك أسباب أخرى أقلّ وزناً. لكنّ مستشفى الملك فيصل التخصصي بعد إنشاء مركز الملك عبدالله للأورام وأمراض الكبد بإمكاناته المتطورة وسعته السريرية والعيادية، وقدرته على استقطاب أفضل الخبرات العالمية والمحلية وعلى إدخال أفضل الأساليب العلاجية، ومن خلال برنامج الطب الاتصالي الذي يصله بعشرات المستشفيات في المملكة، وكذا التعاون مع شبكة مراكز علاج السرطان الأخرى، يستطيع رفع مستوى الكفاءة العلاجية وتقليص فترات الانتظار والوصول إلى الحالات في مراحلها المبكرة - ممّا يهيّئ لفرص أكبر في الشفاء بإذن الله.
في كل الأحوال، بعد أن سعدنا برؤية إنجاز مشروع القمة، نتمنّى أن نسعد في وقت غير بعيد برؤية إنجاز مشروع القاعدة المتمثّل في الرعاية الصحية الأولية والمستشفيات العامة.