حنان بنت حمد الجبيلان
يشهد عالمنا اليوم حراكًا قويًّا وديناميكية تسارع قوية جدًّا للمتغيرات؛ إذ إن هذا التسارع سمة
من سمات هذا العصر؛ إذ إن التغيير مشروع شمولي، تتبناه الحكومات والمجتمعات والمنظمات؛ فأصبح حتمًا على المجتمعات - وعلى الأخص المنظمات بمختلف أيديولوجياتها - مواكبة هذا الحراك وهذه المتغيرات، وتطوير أنظمتها حسبما يستجد، ومواجهة التغيرات الدائمة والمستمرة في بيئة العمل الداخلية والخارجية. وبكل تأكيد، بيئة العمل الداخلية لا تقل أهمية وخطورة عن بيئتها الخارجية، بل هي أساس المنظمة المتين، وركيزتها الأساسية في التعامل مع البيئة الخارجية. وهذا التغيير لم يعد ترفًا، بل أصبح من الضرورات الملحة للمنظمات؛ لتواكب التغيرات المحيطة، وتكون مركزًا قويًّا في خضم قوة المنافسة التي يعايشها عصرنا الآن.
إن قرارات التغيير داخل المنظمات تُعتبر من القرارات ذات الصعوبة العالية، ومن العمليات التي يصعب تنفيذها بسهولة بسبب ما يسمى بـ(Resistance of change). وتتكون هذه المقاومة من صعوبات حقيقية، وأخرى مدركة أو تخيلية. وهذا يتمثل في السلوك الفردي والجماعي الذي يعمل على تعطيل ومقاومة عملية التغيير. وبسبب طبيعة الأفراد التي ترتاح للمألوف، وتخاف من المجهول، أصبح من المهم تفهُّم أسباب المقاومة حتى يمكن التعامل معها. ويجب على متخذ القرار أن يكون على دراية بعلم التغيير، وعلى وعي بسلوك الأفراد في منظمته، والتنبؤ بمدى مقاومتهم لهذا التغيير؛ إذ إن السبب الأعظم لفشل عمليات التغيير في المنظمات هو مقاومة أفراد المنظمة، (خاصة المحاربين القدامى) الذين اعتادوا على العمل بالنمط نفسه سنوات طوالاً، ويرون أن التغيير مجرد بلبلة أو مشكلة، أو أنه يهدد مصالحهم الشخصية!
ومن أسباب مقاومة الأفراد لقرارات التغيير الخوف من الخسائر المادية والمعنوية، أو سوء الفهم لهدف هذا التغيير, وإحساس الأفراد بأنهم استُغلوا أو أُجبروا على هذا التغيير، والرغبة في الاستقرار والخوف من مخالفة معايير تفرضها جماعات غير رسمية، وأيضًا خوف الفرد من المخاطرة، خاصة تلك التي تمس مبادئه وقيمه وعقيدته. ومقاومة التغيير تأخذ أشكالاً متعددة، منها: انخفاض مستوى الإنتاجية، البطء في إنجاز العمل، الصراعات داخل المنظمة، التغيب المستمر.. إلخ. لذا يجب على المنظمة اختيار الاستراتيجيات المناسبة والملائمة لإدارة هذه المقاومة باستخدام طريقة أو أكثر، واختيار طريقة مناسبة، تعتمد على معايير معينة، تتناسب مع طبيعة المقاومين، وكذلك مراعاة الفروق الفردية، وكيفية التعامل مع مقاومي التغيير من النساء أو الرجال؛ إذ أثبتت الدراسات - وإن كانت نسبية -أن النساء- وإن كان التغيير الحاصل لا يناسبهن - يتقبلنه على مضض خوفًا من أن يفقدن مناصبهن، وخصوصًا إذا كانت المنظمة تنتهج استراتيجية القوة والإكراه.. بعكس الموظفين الرجال الذين يبدون انزعاجهم، وعلى استعداد أن يدخلوا في صدام ومناقشات مع السلطات العليا.
إدارة مقاومة التغيير وذكاء اختيار الاستراتيجية المناسبة لذلك تختلف أيضًا باختلاف المكان؛ فالذي يناسب العالم الغربي من غير الملائم تطبيقه في العالم العربي! وخصوصًا أن الغرب أكثر تقبُّلاً واستيعابًا للمتغيرات المحيطة؛ فتقبلهم لذلك أعلى. وعن مدى تقبُّل العرب للتغيير يحضرني ما ذكره المؤرخ الشهير ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن العرب في (كتاب العبر) أن العرب أصعب الأمم انقيادًا وتقبلاً للتغيير؛ لما يحملونه من صفات وراثية وجينية، تجعلهم يميلون للتعصب للقبيلة أو العشائرية (مبدأ العصبية والميل القبائلي)، وإن كان في التغيير خير يبقى ميلهم وولاؤهم الأكبر لجماعاتهم أو لجماعات صديقة.
وأكد ابن خلدون أن التغيير سمة من سمات العمران البشري، ولازمة من لوازمه، ولا يحصل تطور الأفراد والمجتمعات والدول إلا به؛ إذ يقول: «إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول». وقياسًا على ذلك فإن المنظمات في العالم العربي تعاني عند اتخاذها قرارات التغيير ورفضه، ويكون ذلك إما لطريقة المنظمة في فرضه، أو لعدم تقبُّل الأفراد لأي تغيير في بيئتهم!
لذا مقاومة المقاومة ينبغي أن تكون بأسلوب نظيف وشريف بعيد عن القمعية أو انتهاج منهاج ملتوٍ مع الأفراد لتحقيق هذا التغيير؛ إذ إن الغاية لا تبرر الوسيلة!
إن عملية التغيير لا تُعد عملية عشوائية، أو تتم بصورة عفوية أو قرار يتخذ عند الفشل! وكمثال تطبيقي لذلك ما حدث في شركة Amgen (كبرى المنظمات المصنعة لأدوية مرضى الفشل الكلوي وأمراض السرطان)؛ إذ استطاع رئيسها التنفيذي Kevin Sharer تغيير نظرة المنظمة وطاقمها للتسويق وأهميته؛ فقد كانت الإدارة العليا مع مجلس الإدارة يرون أن التسويق غير ضروري إذا كان لدى المنظمة منتج ورصيد في العالم، كما كان معظم المديرين من العلماء
يرون أن التسويق تهديد لهم، ولا يقدم لهم شيئًا إضافيًّا، وهم قادرون على احتكار السوق. ولم يكن لديهم اهتمام ورغبة في أن يعرفوا قيمة التسويق فيما لو أن الأطباء لم يقوموا بوصف المنتج للمريض أو لم تقم شركة التأمين الصحي بدفع قيمة الدواء. واستطاع أيضًا كسب ثقة الأفراد في المنظمة، وذلك من خلال تطوير مهاراته هو أولاً، وكان قدوة في ذلك، وقام أيضًا بإشراكهم في العملية التغييرية، ولم يكونوا منفذين فقط! وهذا ما جعل شركة Amgen أكبر منظمة لصنع الأدوية في العالم.
وختامًا، إدارة مقاومة التغيير فن من فنون الإدارة، له أساليبه وطرقه. ولعلنا ندرك أيضًا أن المقاومة تعتبر ظاهرة طبيعية، وقد تكون ذات دلالة إيجابية؛ إذ قيل في ذلك (إن التغيير الذي لا يقاوَم لسنا بحاجة إليه).