تميل شعوبنا العربية لتصديق أخبار الجن وقصص التلبس بالجن دون إمعان في التثبت من صحة الحادثة، كوننا مشغوفين لتصديق أي خبر يحمل الغرابة والخوارق، بل إن شغفنا بالخوارق يدفعنا لنطرب لها ونطرب الآخرين حينما نروج لها دون تثبت، وربما شككنا في إيمان من يناقش في صحة تلك القصص.
الأمثلة في ذلك كثيرة لا تحصى، فمن تلك الحوادث الشهيرة حادثة ترددت في الرياض قبل عقدين من الزمان عن تلبس فتاة بالجن، وكان سر إثارتها أن الجني اللابس للفتاة يتكلم باللغة الفلبينية، ومما ضاعف في انتشار تلك الواقعة هو حضور أحد المشايخ المشهورين للحادثة ومشاركته في رقية المصابة، وتعهد الجني اللابس لها بأن لا يعود للدخول فيها مرة أخرى، ولتعطى القصة كامل حبكتها استُدعي مترجم ليترجم كلام الشيخ للغة الفلبينية.
وكانت تلك الحادثة بحبكتها الداماتيكية تلزم من يسمع القصة بأن تلبس الجن بالأنس حقيقة لا جدال فيها، وبعد أن روجعت تلك الحادثة تبين لاحقاً الجزء المبتور من القصة، وهو أن تلك القتاة مصابة بفصام وأنها تعلمت اللغة الفلبينية من خادمتها وأنها بعد شفائها أصبحت تتهكم على كل من صدقها وروج لتوهمها. وهذا الجزء الأخير من القصة لم يشاع بين الناس بنفس قدر شيوع قصة التلبس.
إن السبب الذي حدا بتلك الفتاة لتصر على كذبتها رغم مضي زمن على شفائها يرجع إلى المقولة التالية: «أنهم أرادوا ذلك».
«إنهم أرادوا ذلك» هو سبب منطقي يدفع كل من يختلق قصة ما من باب المزاح أو الوهم أن يصر على ثبوت قصته، حالما يجد الآخرين يدفعونه دفعاً نحو الإصرار على كذبته.
نفس سيناريو حادثة الجني الفلبيني والترويج لها وتبرير «إنهم أرادوا ذلك» وقعت قي الغرب وتحديداً في بريطانيا وبشكل مدعوم بالصور الموثقة للحادثة.
في عام 19200 تقريباً قامت فتاتان بعمل عرائس من قصاصات ورقية، وصورتا تلك العرائس بصورة فتوغرافية، ولما اطلعت أم إحداهن على الصور أدعت تلك الفتاتان أن تلك العرائس هي لفتيات من الجن (جنيات). أخذت الأم هذه المزحة على محمل الجد وروجت لها، ووضِعت الفتاتان في موقف المصدق والمروج للقصة وسادت قصة الجنيات الموثقة بالصور كل الأوساط الإعلامية في بريطانيا وأوربا بل والأوساط العلمية حينما روج لها الروائي المشهور ارثر كونان دويل ونسجت في ذلك روايات للخوارق السحرية وحكايات عن عالم الجن في Sherlock Holmes بل وفسرت بعض أعمال الماجك magic على أنها خوارق جن وسحر وليست خدعاً وحيلاً.
وبعد مضي ستين سنة من الحادثة، اعترفت الفتاتان (العجوزان) وهما إلسي رايت وبنت عمها فرانسيس غريفيس بأنهما اختلقتا القصة وأن العرائس هي في الأصل أوراق مقصوصة على هيئة عرائس.
أهم ما في هذه القصة هو أنه عندما طُلب منهما المبرر الذي دفعهما لمواصلة الكذب قالتا: «نحن لم نرد ذلك، بل «إنهم أرادوا ذلك» بمعنى أن الرأي العام وقناعة الناس تنحو منحى توجيه فكرنا لنقتنع بكذبتنا.
وهكذا فإنه في علم النفس الجنائي يجد المرء مندفعاً ليدلو بشهادته لواقعة ما على نحو يجاري فيه الرأي العام دون أن يتقصد الكذب، وهذه النوع من الشهادة يدخل فيما يسمى بالتفكير الموجه، حيث يلزم فكر الفرد للتفكير على نحو يخضع فيه دون أن يشهر إلى الفكر السائد، وهي ما نقصده بحجة «إنهم أرادوا ذلك « وهي نفس حجة الممثل الذي يقوم بدور غريب عندما يقول «المخرج عاوز كدا».
والأخطر من ذلك كله، أن إشباع الأبناء بقصص الجن المخيفة من قبل مجتمعهم وأسرهم، يدفع من تضطرب نفسيته منهم لأن يكون عرضة للإصابة بالهلاوس والفصام، فالجني الذي كرر زراعته في مخيلته يضاف إلى رصيد سيناريو فكره وتخيلاته وهلاوسه على نحو يتقمص فيه هو شخصية الجني اللابس له، أننا بترديد قصص الجن نعزز ممن لديه قابلية للجنون أن ينجن (يصاب بالفصام) ونعزز ممن لديه مخاوف أن يضاعف من مخاوفه، وقبل هذا وذاك، نعزز طلابنا على نحو يدفعهم لتفسير الظواهر الطبيعية الغريبة على أن نحوا أن يكون بطلها هو جني، فيا من أنت مشبع بقصص الجن والسحر، رفقاً بأطفالك ورفقاً بعقول الطلاب والطالبات..