د. سلطان سعد القحطاني
تعني كلمة( صدى)في المصطح اللغوي الفيزيائي: رجع الصوت إذا اصطدم بجسم عاكس كالجبال وما شابهها، على سبيل المثال، فيرجع الصوت على مصدره، من خلال ذبذبات فيزيائية بواسطة الهواء، قال الله - تعالى- {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية} الأنفال35، والمكاء (الصفير، والتصدية التصفيق) حيث تُصدر هذه الذبذبات تشويشاً ومضايقة للرسول (ص) والصحابة رضوان الله عليهم في مكة المكرمة في بداية الدعوة.
وصدى الإبداع يعني أن الكلمة صدرت من المبدع فاصطدمت بسمع المتلقي كجسم عاكس فارتدت على المجتمع وأثرت فيه.وهذا الفعل ما حصل منذ أن ترددت المعلومة في أوساط الناس، وأصبحت متداولةً من خلال الحديث والغناء والإنشاد والإلقاء والرواية الشفوية، ثم دخول الآلة الموسيقية والتلحين في زماننا الحاضر على الأوزان الخليلية.
ونعالج هنا إبداعات الشعراء والكتاب وكلِ المبدعين في الثقافة العربية ،وصداها في المجتمع الذي ظهرت فيه وانتقلت عبر الرواة إلى الآخرين ثم التدوين لمن اشتُهر اسمه عن طريق مجالس الملوك والأمراء في زمانه، ومن لم يُشتهَر لظروف أحاطت به فلم يسعفه الحظ في زمانه،لكنه اشتهر بطريق آخر، في زمن البحث العلمي فيما بعد، وتحقيق المخطوطات.
وهناك أسماء ومصطلحات وردت في الأدب العربي قد تكون غامضة على بعض المتلقين لغموض العهد الذي ظهرت فيه وبُعده عن المتلقي اليوم، بسبب خمول الكلمة وعدم استعمالها في القاموس اللغوي الحديث والتعبير اليومي المتداول؛.ولنستعرض في هذه الحلقات - قبل أن نعرض للشعراء - بعضاً من الأسماء والمصطلحات التي تتردد على أسماعنا دونما نعرف مدلولاتها ومما اشتقت في زمانها ولم تعد مستعملة في اللغة اليومية في يومنا هذا، إلا القليل منها...... ودعونا نستعرض بعضاً منها مما ورد في التراث العربي قبل أن نعرض للشعراء والأدباء من الجاهلية إلى زماننا هذا، وتَرد هذه الكلمات في نصوصهم التي خلدها الزمن وتداولها الناس في ندواتهم وأحاديثهم ومناهجهم الدراسية، بمعرفة أو بغيرها، ومن أشهر هذه المفردات (عكاظ) الذي بُعث من مرقده قبل عدة سنوات في المملكة العربية السعودية،بطلب من بعض الأدباء وموافقة من الملك فيصل،رحمه الله،لكن إقامتَه كانت متأخرة نوعاً ما،لكنه أصبح قائماً في كل عام ويتطور من حين لآخر، وموقعه على طريق الطائف – الرياض، وكانت أول جائزة تمنح في هذا السوق الأدبية- التراثية- الحديثة، للشاعر الراحل محمد الثبيتي -رحمه الله- عام 1428 الموافق 2007. والثبيتي شاعر ذاع صيته في البلاد العربية، نظراً لقوة معانيه والتجديد في أسلوب القصيدة، وما زالت تمنح هذه الجائزة في كل عام لشاعر عربي. أسواق العرب في الجاهلية وصدر الإسلام:
وإذا بحثنا عن معنى عكاظ في المصادر اللغوية نجد الكلمة تعني( الحبس والإقامة) لغرض ما: عكظه،أي حبسه،وهي من الكلمات الخاملة القليلة الاستعمال أو المندثرة، ولولا جهود الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، رحمه الله، الذي أسس جريدة بهذا الاسم، سنة 1379 الموافق 1960، في الطائف،موقع عكاظ ‘ لكان هذا الاسم والموقع طي النسيان إلى الأبد. (وعكاظ سوق للعرب كانوا يتعاكظون فيها، أي يغلب بعضهم بعضاً فيحبس أنفاسه الشعرية، وربما تحصُل بسبب ذلك بعضُ المناوشات .قال الليث : سميت عكاظاً لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكِظُ بعضُهم بعضاً بالمفاخرة، وكانت تقام فيها المباريات الشعرية والمفاخرة التي تسببت في بعض الأحيان في معارك سجلها التاريخ من أيام العرب في معركتين، وذكرها الشعراء في تراثهم الشعري، والتي حذر منها الفارسُ الشاعرُ الحكيم، دريد بن الصمة في قوله:
«تغيبت عن يومي عكاظٍ كليهما
وإن يك يومٌ ثالث أتغيب
وإن يكُ يوم رابع لا أكن به
وإن يك يوم خامس أتجنب»
وهو يؤكد أنه لم يشارك في تلك الحماقات ولن يشارك، وأنها ليست من مستواه.
وعكاظ أكبر الأسواق الثلاثة التي كانت تقام قبل الحج من كل عام، وهي: عكاظ ومجنة وذو المجاز، وعكاظ أكبرها وأطولها مدة في الزمن، أما ذو المجاز ففي الأيام الثمانية الأولى من شهر ذي الحجة التي تسبق الإحرام للحج. وبما أنه سوق تجاري أدبي اجتماعي، فقد ورد أن هناك من يستغل وجود الجماهيرية فيه فيعرض ما عنده، فقد ذكرت المصادر التاريخية أن النبي محمد (ص) دخله لطلب الحماية ونشر دعوته بين وفود القبائل مرتين. وبعض الآباء كان يعرض بناته للزواج من خلال هذا السوق، أما الخطباء والشعراء فكانوا يحضرونه للترويج لأفكارهم، إضافة إلى طلب الشهرة والظهور والجوائز لمن ثبتت جدارته، وكان ممن حضره من الخطباء، خطيب العرب المفوه (قس بن ساعدة الإيادي) وهناك من المصادر المؤكدة من ذكر أنه اتُخذ سوقاً بعد عام الفيل، في سنة 540 للميلاد وبقيت إلى عام 129 للهجرة قبل أن يدمرها الخوارج الح رورية،حيث نهبوا ما بها من آثار. وعكاظ اليوم موسم لكل مبدع يتقدم للمنافسة الفعلية للدخول في جوائزه القيمة، في الشعر والفنون التشكيلية والمسرحية، وقد أولت حكومة المملكة العربية السعودية هذا المهرجان عناية فائقة، وإشراك كل مبدع يُثبت جدارته لنيل جوائزه في الفنون والآداب، من كل البلاد العربية، إضافة إلى بسط الحرف على مدى أسابيع المهرجان، مُهيَأةً لهم الخدمات العامة بكل وسائلها ومتطلباتها، مما أعطى ذاكرة المكان نشاطاً وحيوية لدى المجتمع.
وكان من نتائج هذا السوق الثقافية في العصر الجاهلي وجود القصائد الفائزة، التي كتبت بماء الذهب وعُلقت على أستار الكعبة، فسميت (المعلقات) ومن باب أولى أن يُحتفظَ بها في زمن لم يكن هناك مطبوعات منظمة تحفظ المنتج الفني كما هو اليوم، وإن كانت الكتابة موجودة وليس كمن يزعم أن العرب لا تعرف الكتابة، وهذه اقوال مردودة على أصحابها. وبما أن مكة المكرمة هي المكان المناسب لحفظ هذه النوادر الشعرية من ديوان العرب الأول (الشعر) فقد كانت الفكرة أن تكتب بماء الذهب إكراماً وتقديراً لها ولإصحابها،ثم تعلق على جدران الكعبة، التي لم تنقطع يوماً عن زائر أو معتمر أو حاج، لإتاحة الفرصة للإطلاع عليها من قبل الزائرين، وهذا سبب تسميتها بالمعلقات،وهناك من الشراح من قال: إنها سميت بهذا الاسم لأنها عَلقت بأذهان الناس، وهناك من سماها (السُّموط) جمع سِمط، وهو العقد النفيس الذي تضعه المرأة على جيدها،وهذه الأقوال في جملتها لايؤخذ بها،ولم يثبت منها إلا ما قلناه وتداوله الناس. وهذه المجموعة مختارة مما قيل في ذلك العصر، وإن لم يكن كل ما قيل من شعر حفظ في هذا المكان،فإما أنه تعرض للسرقة أو التلف، والله أعلم، فقد اختلفت مصادر التاريخ الأدبي في عددها،فهناك من قال إنها سبع،وهناك من زاد عليها ثلاثاً لتصبح عشر معلقات.
واهتم الشراح واللغويون منذ القدم بتحقيقها وشرح معاني الكلمات التي وردت فيها، وهي تقوم على نظام القصيدة الجاهلية، بذكر الأطلال والمحبوبة والمفاخرة وغيرها كمقدمة، ثم الشروع في موضوع القصيدة، فخراً أو هجاءً أو نسيباً، وغير ذلك.
ومن شعرائها المشهورين:
امرئ القيس، الذي بدأ بالأطلال:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللواء بين الدخول فحومل
طرفة بن العبد، الذي بدأ بالغزل
لخولة أطلال ببرقةِ ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
زهير بن أبي سلمى، الذي بدأ بالغزل والمكان:
أمن أم أوفي دمنة لم تَكلّم
بحومانة الدراج فالمتثلم
لبيد بن ربيعة، الذي بدأ بالمكان:
(عفت الديار محلُها فمُقامها
بمنى تأبد غولها فرجامها)
عنترة بن شداد، الذي بدأ بالفخر والمكان:
هل غادر الشعراء من متردم
أم هل سألتَ الدار بعد توهم
الحارث بن حلزة اليشكري،الذي بدأ بهم الكبر:
آذَنتنا ببينها أسماء
رب ثاو يُمَل منه الثَّواء
عمرو بن كلثوم التغلبي، الذي بدأ بالخمر ليفخر بعده
ألا هبي بصحنك واصبحينا
ولا تبق خمور الأندلينا
النابغة الذبياني، الذي بدأ بالغزل والمكان:
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت
وطال عليها سالف الأبد
الأعشى،الذي بدأ بالغزل فقط:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
فهل تطيق وداعاً أيها الرجل
عبيد بن الأبرص،الذي بدأ بالمكان في قوله:
أقفر من أهله ملحوب
فالقطبيات فالذنوب
وهذه القصائد التي تناقلتها الأجيال على مدى القرون تحتوي على معان وحكم وأمثال من تجارب الشعراء، استفاد منها كثير من الناس، وتدرب أصحاب المواهب الشعرية الفنية عليها، فصارت جامعة متعددة التخصصات فيما ظهر بعدها من فنون علمية، كعلم العروض والقافية، والدلالات اللغوية والأماكن الجغرافية والأنساب، فيما تلاها من العقود التاريخية المتعاقبة.
ومما تذكره تلك المصادر أن النابغة الذبياني كانت تضرب له خيمة من أدم (وهو جلد فاخر مدبوغ بعناية فائقة) في هذا السوق، كمحَّكمٍ للقصائد، أو ما نسميه اليوم: لجنة التحكيم،نظراً لمكانته الفنية، يجلس للشعراء فيجيز قصائدهم أو يرفضها، ونظراً للدراسات العلمية الفنية اليوم، فإن هناك من الشعراء من كان يستحق الفوز، كالخنساء وحسان بن ثابت -على سبيل المثال-.
وقبل أن نختم هذه الحلقة، نود أن نشير إلى أن معظم هذا التراث ضاع أو كاد أن يضيع في عصور الإهمال وتفشي الأمية، وكان لبعض المستشرقين فضل في تحقيقه وإخراجه، ولا عبرة لبعض الأقوال حول أهداف هؤلاء العلماء، وما يهمنا منه ما وجدناه من علم غايةً في القوة وتنشيطٍ لذهن الباحثين،وقد تدرب كثير منهم على علم التحقيق والنقد العلمي، ولا عبرة لقول بعض المستشرقين المغرضين: إن هذا الشعر منحول فيما بعد من عصر الإسلام، وإن هؤلاء الشعراء لا وجود لهم ،كنظرية الشعر الجاهلي، للمستشرق الإنجليزي مارجوليوث ومن سار على منواله من العرب، كطه حسين في كتابه (الشعر الجاه لي) ونفيه الحضارة عن الأمة العربية،وأن هذا الشعر لا يمكن أن يصدر عن العرب، مما جعل بعضاً من العلماء والأدباء يقفون له بالمرصاد.
وسنفصل في القول عندما نأتي على ذكر كل منهم في حينه من بإذن الله.