د. صالح بن سعد اللحيدان
يحسب كثير من الناس، ولاسيما الباحثين من غير ذوي الاختصاص، أنه بمجرد حب العلم في أي فرع من فروعه فإنه يمكن الإتيان عليه، أو الإتيان على جزء منه.
ويحسب مثلهم يضارعهم أنه بمجرد حب صفة من صفات عالم من العلماء أن يكون مثله إذا سار على منهاجه، أو على صورة من صور منهجه.
وهذا وذاك قد جرَّا خلال الدهور مشكلة التطفل على العلم، وقد يجرُّ هذا لحسد العالم وحسد المثقف وحسد الناقد، لكن بصورة من الصور المتعددة.
وهو حسب تتبعي قاد كثيرًا من هذا الصنف وذاك إلى التعالم، وهو قد سبب السوء على العلم في حالة من حالته، وفي صورة من صوره. ما في ذلك شك.
والذي أقطع به هو أن العلم في أصله موهبة من المواهب، وقدرات زائدة، لا يستطيع كل أحد أن يأتي هذا إلا إذا أوتي أي شيء، ولو كان قليلاً من الموهبة والاستعداد النفسي لعلم من العلوم ولا بد.
من أجل ذلك فإن معرفة علم المعاجم ومعرفة دلالة الأحكام أمر لا بد منه، وهو على هذا الطريق المستقيم الذي أدركه التاريخ خلال القرون عن كبار العلماء في مجالات عدة، بقيت آثارهم إلى هذا الحين،
فمن ذلك على سبيل المثال ما يأتي:
1- الإحاطة بأصول العلم المهمة.
2- الإحاطة بمعرفة دلالات الألفاظ على المعاني.
3- شدة الحذر والتوقي من التعالم أو حب العلم دون موهبة ولو بقدر قليل.
4- التأني وسعة البال على سبيل مكين وطويل.
5- الإحاطة بمعرفة وفهم دلالات الألفاظ على المعاني، سواء الأمكنة أو الأزمنة أو دلالة الآثار على الأحكام، ولاسيما فقه النوازل، تلك التي تحتاج إلى عقل ضخم ونفس طويل وسعة بال مكينة.
6- فهم وإدراك كل لفظ بحسب ما يدل عليه مع ضرورة فهم ما يحيط بهذا من خصوص وعموم.
7- سعة الاطلاع على ما كُتب في المجال الذي ينشد فيه العالم أو الباحث الكتابة فيه، لكن بنفس طويل مع شدة التحري أن يكون ما يكتبه أو يبحثه إنما يكون على سبيل التجديد الإضافي دون معاندة أو الإصرار على الرأي الواحد.
8- شدة الاستشارة لكبار العلماء من ذوي الاختصاص الدقيق الذين عُرفت عنهم الموهبة والقدرات الفذة في علم من العلوم، بصرف النظر عن الشهرة وكثرة الكتب؛ فإن هذا وذاك لا يقوم بأن يعطي هذا صفة العالم لمن تمت شهرته أو كثرت كتبه (ولا ينبئك مثل خبير).
9- عمق النظر وسعة البال على المطروح فيما يتم دراسته وتحليله مع التحفُّظ بعدم الذم للآخر، وعدم تجهيل الطرف الثاني.
10- محاولة حسن الخلق مع المعارض حتى ولو كان ذلك المعارض على أشد شيء من العجلة.
ولهذا نجد من يجهل ابن مالك أو ابن منظور أو البخاري مثلاً أو القرافي أو ابن فرحون أو الأمودي، مع أن هذا المسكين لو عاش سنين عددًا ما استطاع أن يحذو حذو واحد منهم بشروى نقير.
وليس هذا مني إقفالاً للعقل أو سدًّا لباب النظر لكن الذي رأيته ورآه غيري من المختصين في أساسيات النقد وأصول التراجم وأصول البحوث والموهبة هو ما يدعوني إلى القول بمثل هذا.
ولا عليك إلا أن تطالع اليوم بعض ما يكتب في الصحف من آراء وأطروحات عن بعض ما كتبه ثلة من العلماء؛ لتجد التعالي والثقة الزائدة التي لعلها سبب، أظهرت أن الخلل الفهمي هو ما دفع هذا وذاك إلى الاعتقاد أنه يستطيع أن ينتقد أمثال أولئك على حال من الحالات أو صفة من الصفات.
ولعل دليلي على هذا أن التجديد السبقي منذ قرابة 300 عام لم يتكرر إلى هذا الحين بسبب ما ذكرت. ولا يجوز أن نجعل شهرة العالم أو الباحث أو المحقق وكثرة آرائه وكتبه وحضوره أنه أضاف جديدًا نوعيًّا على الأقل.
ولعل قلة القراءة اليوم تجعل من البعض إمامًا وناقدًا ومثقفًا يُشار إليه بالبنان.
وهذا خلل دون ريب في العقلية المعاصرة.
وهذا يجعل العلم في هذا الحين في مكانه لا يريم، ويقطع السبيل أن لا يمكن التجديد في أول المعاجم، تلك التي دونها العلماء الموهوبون، ومثله أعني مثل ذلك أصول فقه الأحكام وإنزال النص على الواقعة والمزج بين هذا وذاك.
وإن شئت فاقرأ مقدمة مسلم في صحيحه أو إن شئت فاقرأ كتاب الطب أو القضاء في صحيح البخاري أو إن شئت فاقرأ سياسات الإدارة العليا فيما كتبه ابن تيمية في (الفتاوى).
أو إن شئت فاقرأ ما دونه الشاطبي أو ابن رجب أو إن شئت فانظر ما دونه لابن هشام، وسواهم خلق كثير؛ لتجد أني لا أبعد النجعة، وأن مثل قولي لعله يكون محل درس ونظر في الهيئات والمجامع العلمية؛ لعل ما أقوله يكون سببًا في التجديد الإضافي على حال؛ لعلها تساهم في تحفيز الموهبة، وبعث فهم أصول العلم وأساسياته في مثل هذا الحين العجيب.