د. إبراهيم بن محمد الشتوي
قال لي أحد الأصدقاء الذين أتبادل وإياه الرأي أحيانًا حول ما أكتب «إن كتابتك جيدة، ولكن ينقصها لغة واصفة حديثة». استعلمت منه المقصود، ففهمت أنه يقصد لغة اصطلاحية محددة، تجعل الكلام الذي أقوله علميًّا عوضًا عن أن يكون كلامًا كأنه خارج السياقات العلمية، والنظريات النقدية. فأنا مثلاً عوضًا عن أقول «حبكة»، أقول: «الترتيب الذي سارت عليه أجزاء النص». فقولي هنا هو شرح لكلمة «حبكة» دون أن أقولها، ولو قلت «حبكة» لاكتفى المتلقي بها عن الشرح الذي قدمته لها.
ضربت بكلمة «الحبكة» مثلاً لشدة وضوحها، وإلا فإن اللغة الاصطلاحية تتجاوز هذا المصطلح البسيط لتتحول إلى قضايا معقدة، لا يحيط بها إلا أولو العزم من الباحثين والدارسين. اعتماد الناقد على اللغة الاصطلاحية له ميزة؛ فهو - كما قال صاحبي - يدرج الكتابة في السياق العلمي، ويعطي انطباعًا للمتلقي بأن الكاتب يفهم في الفن الذي يكتب فهمًا جيدًا، ومن هنا يكسب كلامه جزءًا من الموثوقية، والشعور بالاطمئنان.
المشكلة أن هذه اللغة ليست معروفة عند كثير من القراء، وسيضطر كثير منهم إلى مراجعة المعاجم، والبحث في الكتب المؤلفة عن هذا المصطلح أو ذاك حتى يفهم على وجه الدقة ما يريد الكاتب، إذا حالفه الحظ ولم يجد له تفسيرًا مغايرًا لما استعمله فيه، وهذا سيتصل بمسألة الفهم والإفهام على رأي أبي عثمان الجاحظ؛ إذ سيكون هناك مسافة كبيرة بين الكاتب والمتلقي الذي قد لا يكون متخصصًا، وعلى قدرة على الوصول إلى تلك المفاهيم، وهنا ستكون الكتابة خاصة بفئة من المتخصصين الذي يعلمون المرجعية العلمية التي تدل عليها هذه المصطلحات.
الأمر الآخر أن هذه المصطلحات عندما تأتي لا تأتي وحدها؛ فهي مربوطة بمنظومة معرفية، بمنهج نقدي له مواضعاته التي قام عليها، فإذا استعملت مثلاً «النسق» فلا يصح أن تتحدث بعده عن «بنية النص»، أو «الدال السيميائي»؛ لأن هذا يعني أن الكاتب -ببساطة- لا يلتزم بمرجعية علمية واحدة، وإنما يتنقل بين مرجعيات مختلفة. ولأن هذا الأمر يتطلب تركيبًا منهجيًّا عميقًا فإن كثيرًا من الكتاب لا يصير إليه، وإنما يعتمد على سعة ثقافته، فيقدم خلطة مفاهيمية في الغالب متناقضة.
الأمر الأخير أن هذه اللغة الاصطلاحية في أحيان كثيرة ليست بريئة من محمول أيديولوجية، تجعل القارئ يصنفك مع هؤلاء أو أولئك، وينظر إليك بريبة أو اطمئنان، وقد يصد عما تكتبه دون أن يقرأه. ويمكن أن أضرب هذه المرة مثلاً على ذلك بمصطلح «البنيوية» الذي يحيل مباشرة إلى الحداثة والثقافة الغربية وما لف لفها، بل سيعيدنا إلى كل الصراع القديم حول البنيوية، وأضرابها، وأنصارها، ومعارضيها، وكأنها حدثت أمس.
في حين يستطيع الكاتب أن يتجاوز هذا القلق الأيديولوجي حين يصف ما سيفعله بلغة «بيضاء» - إن صح التعبير - لا تنتمي إلى غير المتعارف عليه، فعوضًا عن القول بأنه سيدرس النص دراسة بنيوية يقول: إن الجملة في النص وحدة مستقلة ذات نظام مغلق على نفسه، وسأجعلها أصغر وحدة متماسكة للتحليل، من خلال ما تملكه الجملة من مكونات لغوية، تكون وسيلة للكشف عن نظامها، ولربطها بالجمل الأخرى.
هذا فيما يتصل بمصطلح «البنيوية»، وهو مصطلح نقدي بالمقام الأول، فما القول في المصطلحات أخرى؟ قد تكون ذات مرجعيات سياسية، كـ«القومية»، الذي يحيل إلى حقبة معينة من تاريخ العرب الحديث، انقسم فيه الناس إلى فسطاطين: واحد يؤمن بها شعارًا للحياة، وغاية تستحق الموت لأجلها، وآخرون يرونها العدو الأكبر، والخطر الداهم الذي يهدد القيم، والأصالة، ويطمح لتفتيت جسد الأمة والنخر في جسدها، ووحدتها.
الكتابة بلغة عادية، لا تنتمي إلى لغة المصطلحات، والاكتفاء ببيان المفاهيم دون تحديد مصطلحه العلمي، يجعلان الأفكار أكثر استقلالاً عن المنظومات الفكرية الأيديولوجية، وأكثر وضوحًا للمتلقي؛ وهذا يكسبها سيرورة بين المتلقين، ويريح الكاتب من التأطير والتصنيف الذي لا يمت إلى العلم بصلة. صحيح أنه قد يوحي - أحيانًا - أن الكتابة شبيهة بالكتابة الإنشائية، وأنها كلام يصدره الكاتب لا يبين ما وراءه من جهد، وخلفية معرفية بالنظريات والأفكار، ولكن هذه الشعور يتبدد عند من يدرك تلك المعارف حقيقة؛ وهو ما يجعل هذا العارض وقتيًّا، يخف أثره في مقابل المساحة التي تنالها المقالة.
كنت أريد أن أكتفي بتقديم للموضوع الذي سأكتب فيه لكن الكلام طال، واستغرق المساحة المحددة؛ لذا سأرجئ الحديث في الموضوع إلى المقالة القادمة.