محمد جبر الحربي
«ما أَكْثَرَ النَّاسَ لا بَلْ مَا أَقَلَّهُمُ
اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَقُلْ فَنَدًا
إِنِّي لأَفْتَحُ عَيْنِي حِينَ أَفْتَحُهَا
عَلَى كَثِيرٍ وَلَكِنْ لا أَرَى أَحَدًا»*
الثَّاءُ رابعُ حروفِ الأبجديَّةِ العربيَّةِ، وهي من الحروف اللثوية المهموسة، وهي والظاء والذال في حيز واحد .
جميلةٌ هيَ الثَّاءُ في رسمها، فهي كالثَّمرةِ في نقاطها، وكالثَّغرِ في ابتسامتهِ، وهي مثيرةٌ وحيَّةٌ كالحياةِ ذاتِها في الكلمات التي تحتويها كالغيث والثمر، وملونة كالفراش المبثوث، والزرابيِّ المبثوثة، ومبعثُ قوةٍ في الثَّبات والثَّورة، وقيمةُ حبٍّ وعطاءٍ في الإيثار والثناء، لكنها النهاية والممات والهلاك في ثاوٍ ومثوى وثبور..!
والثَّاءُ في المثاني، والسبع المثاني أمُّ الكتاب الفاتحة، ولكنها مع ذلك تخلو من الثاء..!
وقيل السَّبع المثاني هي السَّبع سور الطوال التي تتكرر فيها قصص الوعظ كالبقرة وآل عمران، أو ما ثُنِّيت المائة فيها من السور، فبلغ عددها مائتي آية أو ما قاربها.
ولها حصة الأسدِ في الأعداد بعد التاء، مماثلةً للسين، اثنان وثلاثة وثمانية، وهي في الأيام الاثنين والثلاثاء.
ومن الذَّاكرة التي لم تعُدْ تثبتُ اليوم، إلى الذاكرةِ التي لا تُثلمُ، ذاكرةِ الطفولة الثَّرية التي تؤسس المخيلة، وتؤثث الجمال، فتنهمر صور الثاء المميزة في لثغةِ الأطفالِ، وكذلك في حضورها اللافت في القرآن الكريم رغم قِلتها وندرتها، تلك التي ربينا معها فيما حفظناه من قرآنٍ كريمٍ، ومن سورٍ نرددها في دروسنا مع معلمينا، أو تتردَّد علينا في صلوات الجمعةِ مع آبائنا، وهم يرسمون لنا بداياتنا في طريق الهدى باللين، حين يصحبوننا في صلواتهم:
فنسمعها في الأعلى:( وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى) (4) (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) (5) و(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (16).
وفي الغاشية: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ) (15) (وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (16)، حيثُ تتلون مخيلتنا بهذا البهاء العبقريِّ، ولكنَّ عقولنا الصغيرة حينها تخلط ساعة الاختبار بين النمارقِ والزرابيِّ، فينهرنا المعلم الذي أتعبناه، ولم تتعب عصاه..!
وفي القارعة: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) (4) (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (5) (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) (6) (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) (7).
لكن حصتها الأكبر في سورة الكهف، التي نتمعن فيها جمعةً إثر جمعة، حيث تتنافس هي والدال في الحضور والتجلي فيها، فالثاءُ تثابرُ في بداياتها بثبات، والدال تنسابُ في النهايات بتؤدة، وفتنةٍ نادرة:
( مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا) (3)، (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (6)، (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) (12)، (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) (19)، (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) (21) (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا) (22)، (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) (25)، (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) (31) (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا) (32) (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا) (33) (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (34)، (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَاأَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) (42) (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا) (43) (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) (44)، ( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) (46)، (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) (54).
وكذلك نراها في (الواقعة) بعد أن رُجت الأرضُ رجّاً.. (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) (5) (فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) (6)، في هذا التقسيم: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً) (7):
أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، يسبقهم السابقون، وهم المقربون: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) (13) (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (14).
أما أصحاب الميمنةِ فهم: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) (39) (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (40).
والثّلةُ في أحد معانيها الجمعُ من الناس، وجمعها ثُلل، وثُلال، وثُلَّات.
وأما أصحاب الشِّمال فلم يذكر قياساً لهم لكثرتهم، وهم بالبديهةِ البقية والاستثناء مما سلف، فهم الذين كانوا يشركون، ويكذبون بالبعث:
(وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) (46) (وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (47).
والحِنثُ الذنبُ، والحِنثُ العظيمُ الشِّرك، وحنَثَ بوعدِهِ، أوْ يمينِهِ: تراجعَ فيه:(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَ?ضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ) ص،(44).
... ... ...
* دعبل الخزاعي