تمتثّل الكتابة السردية لدى القاصة شيمة الشمري إلى نمط من الوعي المتشابك الذي يرى إلى الواقع رؤية متمددة متشعبة، فالقصة القصيرة جداً عندها ليست مجرد ومضة عابرة من كلمات مسرودة، إنما هي أشبه بحالة سؤال دائم متمدد في سلسلة من الرؤى التي تتكثّف في جملة من القصص المتجاورة.
إننا في مجموعة: «عرافة المساء» (النادي الأدبي بمنطقة الباحة/ مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2014م) بإزاء تجربة القص المتلاحم المتتالي الذي يصنع سياقات متجاورة لها نسب دلالي متواتر. هنا سوف نقرأ مجموعة: «عرافة المساء» بوصفها وحدة دلالية تنظمها رؤى موحدة. فلا تنفصم كل قصة بذاتيتها الجمالية أو الدلالية وإنما تتحد وتتماسك مع القصص الأخرى، كأنها تتشابه والديوان الشعري الذي يقدم دلالاته ككتلة نصية منتظمة.
وتضم المجموعة (74) قصة قصيرة جداً، تدور سرداتها في عدة مجالات دلالية ينتظمها نسق قصصي دال يركز على قراءة الوعي الإنساني بتعدده، ومواقفه، وتجاربه، والمجموعة هي الثالثة للقاصة بعد: «ربما غدا» و«أقواس ونوافذ» وهي في هذه المجموعة تقدّم قصصاً أكثر نضجاً، بحكم التجربة واتساع الرؤية.
القاصة ترصد بالطبع من المنظور الخارجي أو الداخلي، تقدم سردها الذي سعى إلى تأصيل رؤى مختلفة ليس مدارها العالم الأنثوي بالضرورة، كما يُتوقع من كاتبة وقاصة، ولكن يصبو إلى قراءة التجارب المفارقة، أو التي تثير الشجن والسؤال والتأمل وطرح هواجس الوجود من شخصيات متعددة تعدد الهاجس الإنساني نفسه، من خلال لغة سردية متنوعة المستويات، قد تتقدم في تجليها النثري السردي البسيط لتسمو حسب أجواء القص إلى لغة مشعرنة وأسلوب نثري فني يتسم برؤية تنتقي كلماتها وجملها بشكل جمالي جلي.
إن استثمار العلاقات السياقية في المجال السردي ما بين الكلمات مترادفة أو متضادة يصنع قدرا من الحيوية البازغة في القصة، وإذا كانت القصة من هذا النمط الذي نحن بصدده: «قصة قصيرة جدا» سيكون لكل كلمة مغزى ودلالة محددة في نفسها أولاً، وفي علاقاتها السياقية المتجاورة بالكلمات الأخرى ثانياً، وفي بعدها الرأسي تبعاً لحضورها في الجملة السردية ثالثاً .
إننا هنا حيال نصوص مختلفة، لا تُقرأ سريعاً لأنها قصيرة، ولكنها تحتاج لقراءات لا مخاتلة، قراءات أكثر تركيزاً وأكثر تأملاً في استيعاب المعنى والدلالة وتأويله وفي استقصاء ما تلح عليه هذه السردات المكثفة.
-2-
في نص بعنوان: «لا عودة» سوف تؤثر القصة تقديم المتعارض . هنا القصة لا تستجيب للوعي الذي يستسلم ليقين ما، سواء كان دهشة لوجود أو ارتحالاً لفكرة، لكنها تؤثر صنيع مفارقة ما، تقديم الطرف الآخر المتعارض من خلال هذا الحوار البسيط الشفيف:
«قال لها: هل نسيت كل ما بيننا بهذه السهولة؟ نسيتني؟
قالت: بل بصعوبة، والأشياء التي تغادرنا بصعوبة لا تعود» / ص 17
ما بين السهولة والصعوبة صنعت شيمة الشمري نصها القصير الذي يتشح بسمة حوارية مبسطة أفقها: النسيان، وفضاؤها العاطفة. النسيان هنا كأنه حالة تذكر تسعى للتفسير. النسيان: سؤال يفند العلاقة بين طرفين، وتأتي الإجابة لتؤكد على النسيان، لكنه نسيان تم بصعوبة أخذ وقته لأن الأحداث «كل ما بيننا» متجذّرة تحتاج لوقت أطول لتنسى وهذا يشير إلى كثافة العلاقة الوجدانية بين الطرفين وتمددها. هنا احتاج النسيان لوقت. صار أكثر صعوبة لتؤكد القاصة على هذه الجملة اليقينية:» الأشياء التي تغادرنا بصعوبة لا تعود».
في ظلال هذه الحوارية: «قال- قالت» بين الأنا والآخر تقدم شيمة الشمري أربع قصص أخرى هي: «اعتراف» / ص 25 - تراجع ص 57 - وقت ص 87- غياب ص 139
هكذا تقدم شيمة الشمري خمس قصص تتشح بظل حواري، وتكتسي بأجوائه، وهو هنا ظل أكثر كثافة ورقماً للتجريد وقصاً للزوائد.
الحوار بين الطرفين يحفز على فتح مجالات للتخاطب والقول السردي، وغالباً ما ينشأ في القصص على حالة تعارض أو تضاد أو مفارقة، وهذا هو المغزى القصصي القصير جداً، أن يشعرك كقارئ بالتوتر وبإيماضة القلق الذي يحفز من جهته على استشعار دلالات النص أكثر وتلمس مكامنه الحوارية الدالة.
-3-
وتفصح مجموعة: «عرافة المساء عن وجود ثلاث آليات يمكن وسمها بالآليات المركزية في كتابة شيمة الشمري في هذه المجموعة تتمثّل في: الرؤية الظرفية، حيث تنفتح القصة بدئياً عبر رؤية ظرفية مكانية من خلال حرف الجر «في» التي تشكل فاتحة قصصية مكانية ليتساءل القارئ عما تنطوي عليه القصة في هذا المكان المنتقى أو ذاك. مثل قصص: عصير، عباءة أحلامي، لي لي ، صدف، حكاية صدفة، روح ما (الصفحات 11، 15، 53، 59، 75، 79) على التوالي.
وتزمين الرؤية، حيث تبدأ قصص عدة بهاجس زمني يتشكل على الأكثر بتكرار لازمة هي «عندما» كما في قصص: عزم، كل ليلة، احتفال، حيرة، هؤلاء، تنبيه، مغفل، صدى (الصفحات 27،29، 31،39،57، 77، 83، 89) على التوالي.
والبعد المونولوجي: حيث تنفرد الذات بذاتها القاصة، وتتجلى أسئلتها داخليا في مونولوج ذاتي ينقب عن هواجسه وأسئلته، وتتشكل قصص هذه الآلية المونولوجية من (4) قصص هي: ويل لهم، أنا، يسكنها الشتاء، للحب بقية (الصفحات 13، 43، 65، 141) على التوالي.
إن مجموعة : «عرافة المساء» مترعة بالتشكيلات السردية، وحافلة برؤى أكثر كثافة تطل القاصة عبر حدقاتها السردية منوعة في مجالاتها، ومثرية لمفارقاتها وصخبها التعبيري الكامن في مستوياتها المتعددة.
- عبدالله السمطي