يذكر الدكتور حسين مؤنس رحمه الله مقولة وجهها له أحد المستعربين الإسبان حينما علم بمجيئه إلى إسبانيا للتخصص في مجال التاريخ الأندلسي. قال له: إن كنت جئت للصراخ والبكاء فلا حاجة لنا بك، وأهلًا وسهلًا إن كان الشغف العلمي قد أحضرك إلينا. المثير في الحكاية ليست الدعوة لاتخاذ الأندلس ميدانًا للبحث والدراسة، فهو أمر طبيعي أن يحرض أكاديمي على الوعي العلمي والبحثي. اللافت في الموضوع هو إشارة المستعرب إلى موضوع البكاء والصراخ في حديثه مع طالب عربي، وهو ما يشي بسمعة علمية سيئة للباحث العربي المتعاطي لقضايا الأندلس.
والحقيقة أن في هذه النظرة غير قليل من الصحة والدقة ويؤيد ذلك الكثرة الكاثرة مما يسميها أصحابها مؤلفات وبحوًثا عربية في مجال الدراسات الأندلسية، وخاصة منها فرعي التاريخ والأدب. الناظر في كثير من تلك المؤلفات وحتى المحاضرات والدروس يجدها تفتقد للبعد العلمي الحقيقي في الطرح والتحليل، ويغلب عليها الجانب العاطفي ربما بوصفه نوعًا من محاولة التعويض لضعف الطرح العلمي وطريقة بائسة لجذب الانتباه وكسب الجمهور.
والمتابع العادي يدرك أنه كلما دعت الحاجة بعض المؤلفين أو مشاهير الدعاة وغيرهم إلى تلميع الصورة الشخصية أو تجديد الحضور الإعلامي أو حتى التسويق للأسماء الصغيرة والدخيلة على العلم والمعرفة؛ فالوسيلة الأسهل هو تأسيس عمل محوره الأندلس يجري التباكي فيه على غرناطة وإشبيلية وقرطبة وجبل طارق. وهذا الفعل مضمون الجمهور والدموع أيضًا حين تنشد فيه نونية أبي البقاء الرندي و»يا زمان الوصل بالأندلس»، ويظهر على صاحب العمل أمام الكاميرا الحزن الشديد وهو يقف أمام قصر الحمراء أو بين أشجار البرتقال في مسجد قرطبة، ولا بأس بقليل من الموسيقى/المؤثرات الحزينة التي تبعث في النفوس غير قليل من الاحتقان والتحفز لغزو أوروبا وإعادة افتتاح الأندلس!
أتمنى على هؤلاء الالتفات إلى عمل المستعربين الإسبان واشتغالاتهم البحثية على موضوع الحضارة الأندلسية، ليتعرفوا على أعراف البحث، ويتعلموا معنى التجرد والموضوعية في طرح الإشكالات وتحليلها. وستقودهم الملاحظة لفضيلة التواضع التي تسير في معادلة عكسية مع التطور العلمي والوعي الفكري؛ إذ كلما زاد محصلة الوعي والتمكن العلمي قل لدى الباحث شعوره بالتعالي والتفوق. أقول ذلك لدهشتي من عدد من الباحثين الإسبان يمضي أحدهم سني عمره في تخصص دقيق في الدراسات الأندلسية، فإذا سألته عن تفاصيل في محيط اهتمامه يجيب تواضعًا بجمل تمريضية مثل: «من وجهة نظري»، «أظن...» ، و « في اعتقادي...»، ناهيك عن لغة الجسد التي تشعرك بوقوفك في موقف النظير له أو المتفوق أحيانًا رغم أنه مرجع أوحد في بابه. هذا في الوقت الذي ترى بعض باحثينا ينظر إليك من علٍ وهو يقدم معلومة تاريخية أو أدبية وكأنها نظرية رياضية لا سبيل لدحضها، مع العلم أنه يجترها من غيره ولم يناقشها مع نفسه قط!!
- د. صالح عيظة الزهراني