ياسر صالح البهيجان
مفهوم المواطنَة أحد أبرز المفاهيم الحديثة الناظمة لعلاقة الأفراد داخل الوطن الواحد، ويؤسس لآليات تفاعل المواطنين ضمن حدود وطنهم بما يشمل التعايش السلمي وقبول الآخر المختلف ثقافياً لتحقيق استقرار المجتمع عبر اتحاده خلف مؤسساته الرسمية، والعمل على البناء والتقدم ككتلة واحدة متعاضدة تشكل قوة جمعية يصعب تفتيتها وخلخلتها في ظل تعدد الأطماع المحيطة باختلاف توجهاتها ورغباتها.
مقولة «الوطن للجميع» إحدى المقولات التأسيسية في مبدأ المواطَنة، فالأوطان متعالية بطبيعتها على المصالح الفردية، أي أنها ليست خاضعة لتيار فكري واحد أو ثقافة واحدة، بل تحفل بالاختلاف من بيئة إلى أخرى بوصفه اختلافاً خلاقاً يمنح المجتمع تنوعاً إيجابياً يذكي التنافس الشريف في سبيل تحقيق الفاعلية والإنتاج لما يحملانه من أبعاد حضارية تصنع مجتمعات متطورة قادرة على تجاوز التحديات المستجدة.
المواطَنة تنمي حس الانتماء إلى الوطن، وتجعل الفرد يتجاوز كل مصالحه الخاصة مقابل المصلحة العامة وفق ما يُعرف بوحدة المصير، أي أن الأمن والاستقرار إن وجدا فسينعم جميع الأفراد بهما، وإن حلت الفوضى والتزعزع الأمني فإن أفراد المجتمع كافّة سيعانون ويقاسون العذابات الناتجة عنهما، لذا لن يأمن الإنسان داخل وطنه ما لم يأمن جاره، وما لم تأمن قريته ومدينته ومنطقته والمناطق الأخرى الواقعة ضمن حدود الوطن الجغرافية، وهذا المفهوم يُنتج التضامن والتآخي وفق أسس رئيسية لا تستقيم الحياة إلا بتوافرها، ما يجعل الدفاع عن الوطن ليس دفاعًا عن أفكار أيديولوجيّة بقدر ما هو دفاع عن حق الأفراد في العيش بكرامة داخل وطنهم وبما يحفظ لهم أرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم من الانتهاك والسلب.
كما أن المواطَنة تؤسس للعدالة الاجتماعية، وتحدد حقوق الأفراد في مجتمعهم والواجبات المنتظرة منهم للرقي بالمجتمع فكريًا وأخلاقيًا، وتضع أطرًا رئيسة لما يُعرف بالرأي العام، الذي يعد وسيلة تعبيرية مدنيّة يكشف من خلالها المواطنون عن رغباتهم وآمالهم وطموحاتهم إزاء الأحداث والمواقف التي تشهدها دولتهم، وعادة ما يصغي صانع القرار لتلك التوجهات الشعبيّة السلميّة لتحسين مستوى المعيشة وحل المشكلات الإنسانيّة الطارئة، كمعضلة البطالة والفقر والإسكان وحقوق الأفراد والجماعات بما لا يتعارض مع القيم والمبادئ العامة المتماشية مع المصالح الوطنية الكبرى.
ثمة خطاب تحريضي رجعي عجزت المنظومة الفكرية لأتباعه عن تقبّل مفهوم المواطَنة، إذ لا تزال تلك العقلية حافلة بالفوضى والتخلف والعنصرية المقيتة التي تتبدى أحيانًا تحت شعارات تقدمية وأحياناً أخرى تستتر برداء التشدد الديني، وهي خطابات مليئة بالنسقية الجاهلية وتضمر تقويض الوحدة الوطنية وتصدير العنف وتأسيس الكراهية بين أفراد المجتمع، وتستهدف في المقام الأول أمن واستقرار المجتمعات، وتحاول جاهدة إحداث التغيير السلبي بلغة تشكيكية قد تبلغ حد التخوين والتكفير والتآمر.
تلك الخطابات التحريضية لم يعد لها مكان لدى المجتمعات المتحضرة والمتأسسة على العلم والمعرفة والبرهان العقلي، وأدرك الإنسان المعاصر بأنها خطابات وجدانيّة لا تحمل مشروعات نهضويّة بناءة، وأخذ رموز تلك الأفكار الهدامة في التواري عن الأنظار بعد أن تساقطت أقنعتهم المزيفة، وفقد خطابتهم قدرته التأثيرية على الحشود بعد أن ازداد وعي المجتمع بضرورة عزلهم وتنقية الحاضنات التعليمية والمؤسسات المدنية من سمومهم الآثمة التي لا تريد للأوطان العامرة سوى الدمار والخراب.