أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: نظرية المعرفة والعلم طويلة الذيول، وسأختمها مؤقتاً بهذه الحلقة؛ لنرتاح بعدها بملامسات للعقل الجمالي؛ لأن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وأعيد في هذه السبتية القول إن المعرفة والعلم قسمان: معرفة معقولة، ومعرفة غير معقولة؛ والمعرفة المعقولة قسمان: فطرية، ومكتسبة؛ فالفطرية هي ملكات العقل إدراكاً من المحسوس، وحفظاً، وتذكراً؛ والمكتسبة ما قنعت به غريزة العقل من حس أو تجربة أو دين؛ فالعقل يصحح المعرفة الحسية، ويحدد قوانين التجربة، ويمتحن النص من ناحية صحة دلالته وثبوته؛ فإذا صحت الدلالة والثبوت: لم يمار في صدقه وأنه حقيقة؛ لأنه آمن مسبقاً بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وأن عصمته حق، وأن الله حق في وجوده وكماله؛ وبناء على هذا التقسيم أعود فأقسم موضوعات المعرفة؛ وهو أمر لاحظه الفيلسوف (لايبنتز) فقال: ((نعرف وجودنا [؛ أي بالرؤية العقلية المباشرة]، .. وأقول نعرف وجود الله بالبرهان، ووجود الأشياء الأخرى بالإحساس؛ إذن فمصادر المعرفة: فطرة وبرهان وتجربة .. إلخ؛ وصفتها: أنها عقلية، أو غير عقلية؛ فما صححه العقل منها فهو عقلي؛ والصفة المعقولة تكون فطريةً، وتكون مكتسبة؛ والعقل ليس مصدراً للمعرفة إلا بإمداد الحس؛ لأنه غريزة تصحح المعرفة؛ وهذه الغريزة تقوم على مسلمات منبثقة من مصادر المعرفة الآنفة الذكر؛ وبموجبها يبني العقل حكمه.. والعقل في تصحيحه لا يقول: إن الحس غير صحيح، أو أن الدين غير صحيح، أو أن التجربة غير صحيحة؛ ولكنه يقول: هذا حس صحيح، أو حس باطل، وهذا دين صحيح أو باطل، أو تجربة صحيحة أو غير صحيحة؛ فإذا كان حساً صحيحاً لزم أنه حقيقة؛ لأن الحس مصدر المعرفة.. ونوع هذه المصادر عند الاستدلال: أنها إما حدسية؛ أي نظرية، وإما حسية، وإما برهانية، [أي تقوم على مبادئ تنبثق من الحس والفطرة معاً]؛ وموضوعات المعرفة تنقسم وفق انقسام مصادر المعرفة؛ وكل هذه المصادر تتضافر على منح اليقين؛ فإذا صح الحس جزمنا بأن هذه المعرفة الحسية يقينية؛ فإن عجز العقل عن تحصيل هذه المعرفة من الحس فلا يعني ذلك عدم وجود المعرفة الحسية أو عدم صحتها؛ فقد تثبت بالبرهان المنبثق من الفطرة والحس كمسائل الميتافيزيقا، وقد تثبت بالنص إذا صحت دلالته وثبوته: لأن الحس قائم، ولكن العقل غائب .. وحضور العقل يعني حكمه في المحسوس، والإيمان به بالبرهان كأن يقول: هذه الحنظلة مرة، فيستحيل أن يرد برهان يزيف هذهلمعرفة إلا أن تكون بالحس آفة؛ فيكون الخطأ في أن هذا الحس نفسه غير صحيح؛ ففرق بين عجز الحس وإدراكه؛ لأن عجزه ليس حجة، وأما إدراكه فحجة.. وكل مصادر المعرفة تعطي يقيناً لا مشاحة فيه إلا ما يتعلق بالنصوص الدينية الخاصة بالفقه؛؛ فإنها مشروطة باصطلاح الشرع نفسه؛ وإنما الخلاف في صحة ثبوت النص .. ولما كان التشريع الديني يعني التحلل من تبعة التكليف في تحصيل الثواب، وتوقي العقاب: صار اليقين الذي تسلم به النصوص يقيناً اعتبارياً؛ أي حسب اعتقاد المكلف شريطة أن يكون صادقاً في تحريه مراد الله؛ فلا يكون متلاعباً؛ أو صاحب هوى؛ فالقاضي قد يدين شخصاً بحكم اجتهاده، وورعه، وتحريه مراد الله؛ وتحريه صحة الواقع: فيكون حكمه يقيناً من ناحية الشرع وإن كان الواقع خلافه.. والتكليف باليقين مستحيل، والشريعة لا تكلف بالمستحيل .. وبإيجاز فالنص إن صح دلالة وثبوتاً وجب القطع بيقينيته، وإن تردد الجزم بصحة دلالته أو ثبوته بين اليقين بالصحة واليقين بالبطلان: فلا يجوز التوقف، بل لا بد من الاستعانة بالمعرفة البرهانية، ويكون اليقين اعتبارياً؛ وأما مصادر المعرفة الأخرى فلا بد فيها من القطع بالصحة أو البطلان.. وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى مع لذائذ العقل الجمالي، والله المستعان.