الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
الفقر في نظر الإسلام شر والغنى خير، والفقر في نظر الإسلام -أيضاً- بلاء ومصيبة، تعوذ منها، ووجّه بالسعي للتخلّص منها. والرسول -صلى الله عليه وسلم- استعاذ من الفقر وجعله قريناً للكفر حيث قال: «اللهم إنّي أعوذ بك من الكفر والفقر».
والواقع المعاصر يدل على أنّ الفقر تحوّل من ظاهرة يمكن علاجها إلى أزمة خطيرة، وفي المجتمع الإسلامي هناك ثمّة حلول ناجحة للقضاء أو للإسهام في معالجة مشكلات الفقر ومن ذلك الوقف الذي يمكن أن يؤدّي دوراً في علاج الفقر باعتباره من الصدقات التطوعية الجارية التي يستمر ثوابها للواقف ومنفعتها للموقوف عليهم.
«الجزيرة» ناقشت أثر الوقف في علاج مشكلات الفقر والفقراء في المجتمع مع ذوي الاختصاص في مختلف العلوم الشرعية والاجتماعية والاقتصادية.
الوعي لدى الواقف
بدايةً يوضّح الدكتور عادل بن محمد العُمري أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة القصيم أنّ هناك حلولاً متعددة قد جاء بها الإسلام لعلاج مشكلة الفقر من أهمها: الوقف وهو من الصدقات التطوعية الجارية التي يستمر ثوابها للواقف ومنفعتها للموقوف عليهم.
لكن لن يكون للوقف دورٌ كبيرٌ في معالجة الفقر في المجتمعات المسلمة إلا بوعي لدى الواقف أو لدى المؤسسات الراعية للأوقاف.
ومن أبرز الأمور التي تجب مراعاتها في ذلك:
1- ألا يكون الوقف مستهدفاً لفئة معينة قد تكون قليلة أو لا حاجة لها بالوقف مثلما يصنع الكثير من الأثرياء حين يجعل الوقف حصراً على أولاده وأولاد أولاده، وقد يكونون أثرياء لا حاجة لهم بالوقف، ففي هذه الحالة تتعطل منفعة الوقف ويتحول الوقف إلى مجرد إرث قد انتقلَ من غني غير محتاج إلى غني آخر غير محتاج.
2- الكثير من الأغنياء يحصر الوقف في أمور غير مهمة أو قد حصلت بها الكفاية كالتوسع الشديد في بناء المساجد وزخرفتها، حتى وصل الأمر أن تجد مساجد قد شيدت وزخرفت في أماكن صحراوية خالية من السكان، وهذا والله من الإسراف المذموم أو من الجهالة المركبة؛ ولا يعني ذلك أنني أرفض بناء المساجد لكن هناك أولويات أهم، ولكل شيء ترتيبه وتنظيمه والأشياء تنتهي قيمتها ويضعف دورها إذا تحولت إلى مجرد مظاهر.
3- لن يكون للوقف دورٌ في حل مشكلات الفقر إلا إذا لامسَ حاجات الفقراء الحقيقية فالفقير يريد مسكناً مناسباً، فلماذا لا تكون هناك مساكن وقفية على المحتاجين؟ ويريد مستشفاً متطوراً؛ فلماذا لا تُستحدث مستشفيات متطورة وقفية غير ربحية تكون بأسعار مناسبة لكل الناس؟ ولماذا لا تستحدث مراكز صحية وقفية للأمراض المستعصية كمراكز للأورام ولغسيل الكلى ولزراعة الكلى والكبد، علماً بأن مثل هذه المبادرات بدأت تظهر على النور لكن نريد المزيد من التطوير والانتشار حتى تصل خدماتها لشرائح المجتمع كافة.
والفقير يحتاج إلى تعليم جيد يفيده في سوق العمل؛ فلماذا لا يكون للأغنياء دورٌ في دعم المتعلمين المحتاجين ومساعدتهم في التحاقهم بكليات متخصصة ككليات الطب والصيدلة والهندسة وغيرها التي تنقلهم من حالة الفقر إلى حالة الغنى؟ وكما قد قيل: أعطني سنارةً ولا تعطني سمكة.
كلمة أخيرة للشيخ عبدالقادر الجيلاني أنادي بها أثرياء هذا البلد المعطاء يقول فيها: «لقمةٌ في بطن جائع خيرٌ من بناء ألف جامع، وخير ممن قام لله بين ساجد وراكع، وخير ممن صام الدهر والحر واقع، فيا بشرى لمن أطعم الجائع».
الوقف الجماعي
ويقول دكتور عبدالرزاق بن حمود الزهراني أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: الوقف كان من أبرز معالم الحضارة الإسلامية، وكان له دور كبير في رعاية ودعم مدارس التعليم والمساجد والمستشفيات والفقراء والمحتاجين وغيرهم من فئات المجتمع، بل إن فضل الوقف الإسلامي امتد إلى الحيوانات، فكان هناك وقف في غوطة دمشق للخيول التي شاركت في الجهاد، وكان هناك وقف للقطط الضالة التي أصابها العمى، وقد ذكر ذلك بكثير من التفصيل دكتور مصطفى السباعي في كتابه (من روائع حضارتنا)، ولا شك أن تفعيل الوقف، والوقف الجماعي بشكل خاص، وهو القائم على مساهمة عدد كبير من الواقفين، كل حسب استطاعته، سوف يكون له أثر كبير وإيجابي في مكافحة الفقر ومساعدة الأسر المعسرة، وذات الدخل المحدود، والوقف من أجلّ العبادات، وصدقته جارية، وأفراد مجتمعنا فيهم خير كثير ويدعمون ويشاركون في مثل هذه الأعمال إذا علموا أن أموالهم تقع في أيد أمينة، وتستثمر بطريقة بناءة وفعالة، ولا شك أن الوقف مظهر حضاري فيه فائدة للأجيال المتعاقبة وخاصة للفئات الفقيرة في المجتمع.
الإقلال من الفقر
ويؤكّد الدكتور سليمان بن صالح الطفيل كبير الاقتصاديين بوزارة المالية سابقاً أنّ من أهم المجالات التي يسهم فيها الوقف المسؤولية الاجتماعية تجاه الفقراء والفقر بالتخفيف منه قدر الإمكان إلى الأدوات الإسلامية المالية الأخرى كفريضة الزكاة والهبات والتبرعات والوصايا ويكاد يكون هناك اتفاق بين جمهور الفقهاء على أن الوقف إذا لم يكن آخره للفقراء فهو وقف غير صحيح.
وجاء في كتاب رسالة في جواز وقف النقود لأبي السعود ما ذكر الفقيه يوسف بن خالد السهتي -رحمه الله- أنه: لا يجوز (بقصد الوقف) ما لم يرد على قوله وآخرها للفقراء أبداً.
ولهذا يعد الإقلال من الفقر من الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للتنمية في العالم ولهذا جاء في تقرير التنمية في العالم بأن هدف التنمية يجب أن ينظر إليه على أنه هجوم انتقائي على أكثر أشكال الفقر سوء.
وبيّن دكتور الطفيل طرق معالجة الأوقاف للفقر وحال الفقراء، وذلك على النحو التالي:
- إتاحة فرصة التعليم والتدريب للفقراء وأبنائهم بدفع رسوم التعليم أو التدريب وبناء مدارس ومراكز تدريب أو ابتعاثهم وتوفير الكتب ووسائل التعليم لهم.
- تحسين الحالة الصحية للفقراء ببناء المستشفيات وتوفير العلاج لهم.
- منحهم القروض البسيطة كأسر منتجة أو أراضٍ زراعية للفلاحة وتشغيلهم وتدريبهم لانخراطهم في الأعمال المساعدة لحياتهم.
وبهذا فإن الواجب علينا أن نوضح كيف يمكن إيجاد صيغة قانونية تمكن الوقف من تأسيس صندوق وقفي مستدام لخدمة الفقراء وتخفيف وطأة الفقر وتجنب مخاطرة الحالية والمستقبلية على الفرد والأسرة والمجتمع. خاصة مع توجه دول العالم النامي بعد أن انتهت مهلة السماح لها مع منظمة التجارة العالمية WTO بإلزام الدول النامية برفع الدعومات ولو بشكل تدريجي وفرض ضرائب ورسوم معلنة والتوجه لسياسات التصنيع بدلا من الزراعة التقليدية والصناعة المدعومة.. وهذا بلا شك سوف يفاقم من مسألة الفقر ويرفع عدد الفقراء في العالم النامي بشكل كبير وبالتالي الوقوع في فخ الفقر (حلقة الفقر المفرغة) وما سيتبع ذلك من قضية التبعية للعالم الصناعي الغربي وفرض شروطه التمويلية على الدول النامية.
لهذا كان لزاماً المبادرة إلى إطلاق صندوق وقفي يعنى بقضايا الفقر ومشكلات الفقراء يكون مرادفاً للدولة في مساعيها نحو تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للأفراد والمجتمع، ويأخذ صفة الديمومة والمشاركة المجتمعية من أهل البر والخير والإحسان ممن أراد أن يوقف شيئاً من ماله في شكل أصول عينية أو نقدية أو أسهم، ولا ريب أن الدولة سيكون لها وقفة كبيرة تجاه هذا الصندوق في الدعم والمساندة بتخصيص حصة أو نسبة معينة لها من رأس مال الصندوق تجعلها في المشروعات الوقفية التي تستهدف بالدرجة الأساسية تأمين حياة الفقراء صحياً وتعليمياً وتدريبياً ودفعهم إلى العمل والإنتاج، ولا شك أن الأسر الفقيرة يمكن تحويلها إلى أسر منتجة بمنحها قروض حسنة ميسرة وبسيطة لمساعدتها على الإنتاج والعمل والمشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وهذا الصندوق لا يلزم أن يكون باسم صندوق الفقر أو صندوق الفقراء؛ يمكن تسميته بصندوق العمل أو صندوق الحياة أو صندوق المستقبل أو صندوق الأجيال.. المهم أن يظهر هذا الصندوق بصيغة تنموية رائدة تتعاطى مع جميع الظروف والأحوال الحالية والمستقبلية ويظل صندوقاً دائماً ومتنامياً له فروع وله نشاطات متنوعة لفئة مهمة وأساسية في البناء والتنمية. هم الفقراء.