قال الشيخ أحمد بن يحيى بن عطوة (948هـ): «سألت شيخنا عن بطحاء الدرعية ـ وهي معروفة عندنا بعد أن عرّفته بكيفيّتها -، هل تصحّ الصلاة فيها أم لا؟
فأجاب: لا يُصلّى فيها؛ لأنّها ممرّ. انتهى. «الفواكه العديدة» (1-92).
وقال الشيخ عبد الوهاب بن عبد الله بن مشرّف (1125هـ): «وأمّا البطحاء التي تغشاها المشاة، مثل العيينة، وبطحاء الدرعية؛ فلا تصحّ الصلاة فيها، أي العيد والصلاة على الميت، وإنّما أجازوا الصلاة في الطريق على الميت والعيد ممّا تكثر فيه الجماعة حيث كان الإمام وبعض الجماعة في المسجد، وضاق المسجد؛ فحينئذٍ تصحّ الصلاة من حيث الضّرورة»أهـ «الفواكه العديدة» (1-60).
وللشيخ عبد الله بن محمد بن ذهلان (1099هـ) تفصيلٌ يُقرّبُ صفةَ بطحاءِ الدّرعيّة، حيث علّق على حُكم الشيخ العسكري فقال: «والذي تحرّر لنا كذلك ـ يعني ما قاله العسكري -، لكنّ الزوايا التي لا يكثر سلوكها؛ الظّاهر لنا صحّة الصلاة فيها، وجواز التخلّي فيها؛ لأنّه علّل بكونها ممرّاً، فكلُّ ما ليس بطريق؛ معدومةٌ العلّةُ فيها»أهـ. «الفواكه العديدة» (1-92).
قلت: بطحاءُ الدّرعيّة موضعٌ معروفٌ ومشهورٌ قديماً، ولا أعرف لها ذكراً اليوم في معالم «الدّرعيّة»، ولا في كتابات المؤرّخين المعاصرين عنها.
و»البطحاءُ في اللغة مسيلٌ فيه دُقاق الحصى، وجمعه: بِطاحٌ، وأشهره: بِطاحُ مكّة، وبطحاءُ المدينة، ذكره الحموي، وقال: «إذا صحّ إجماع أهل اللغة أنّ البطحاءَ ذاتِ الحصى، فكُلُّ قطعةٍ من تلك الأرض بطحاء»أهـ «معجم البلدان» (1-444-445)، وهذا يعني أنّ اسم «البطحاء» يتكرّر ويتعدّد بحسب تعدّد الصّفة المذكورة، وأنّ من جنسه بطحاءُ الدّرعيّة؛ بدليل وصفِ الشيخِ أحمدَ بن عطوة، وتعليلِ شيخه محمد العسكري الدّمشقي، وتفصيلِ الشيخ عبد الله بن ذهلان. ومن البلدان النّجديّة التي فيها بطحاء: سدير، والرياض، فقد ذكر ابن بشر في أحداث سنة 1056هـ وقعةً في سدير باسم الموضع الذي حصلت فيه منها، وهو بطحاؤها. «عنوان المجد» (2-324).
وأمّا الرياض، فإنّنا أدركنا بعض كبار السّنّ يروون لنا أنّ بطحاءها كانت وادياً يسيل مرّةً بعد مرّة، وقال الأستاذ عبد الله بن خميس في وصفها في الربع الأخير من القرن المنصرم: «هي وادٍ يشقّ الآن وسط الرياض، ويُعتبر أطول شارعٍ بها، وأكثر عمراناً، وأوفر حركةً، وأغنى تجارةً، تقوم المصارف على ضفّتيه، وتندلق السيّارات كالسّيلِ المتدافع عَبْرَهُ، ويغصُّ بالغادين والرّائحين، ويموج بالأنوار المتحرّكة والثّابتة، وتلتقي فيه شوارع المدينة؛ تأخذ منه وتعطيه في حركةٍ دائبةٍ صاخبة، وتتوسّطه قناةٌ عميقة شُيّدت جوانبها بالحجارة المربّعة الحمراء، وسُنّمت بالأرصفة تمتدّ فوقها حواجزُ حديديّة تحمي المارّة عبر أرصفتها، وإذا سال هذا الوادي واكتظّت به هذه القناة؛ يندفعُ في قوّة واحتدام؛ ذكّرني بقناة (بَرَدى) في قلب دمشق، فالصّورة قريبة من الصّورة»أهـ.
وانتقل إلى وصفها قبل تلكم الفترة بأربعين سنة، فقال: «ولقد عهدنا هذا الوادي صحراءَ تنتشر هنا وهناك خيامها، وتتربّع فيما بينها آطامها؛ تعمرها حركة الإبل جاءت تحمل الميرة، وتُغذّي عالم الرياض بما تحمل من كساء وغذاء، وأُخرى جاءت تحملُ أصحاب العاداتِ والأُعطيات من البادية والحاضرة، وأُخرى تحمل الغُزاة قافلين أو نافرين، وبين هذه المضارب ترى قطعان الأغنام وحمول الأقط والسّمن، وما تخرجه أرض الجزيرة، وتصنعه يدُ أبنائها، وهنالك الخيول تزرع هذا الوادي جيئةً وذهاباً؛ هذه مُهداةٌ، وهذه مُعطاةٌ، وهذه للغزو تستعدّ، وهذه آيبةٌ منه، وهذه ذاهبةٌ للحلبة.
وفي موضع البنك الأهلي الآن (مشروع الماء) حوضٌ مُستطيلٌ تُمدُّه بئرُ (الحسي) إلى جانبه عن طريق (السواني) بالماء، ويتدافع السُّقاةُ والرُّعاةُ بإبلهم عليه، يُقابله من الجنوب الغربيّ دروازةٌ، أي: بوّابة الثميري باب مدينة الرياض الكبير، يتدافع الناس على دخول المدينة بإبلهم وخيولهم معه، وإذا جاء حوالي الساعة الرابعة ليلاً بالتوقيت الغروبي أُغلق كما تُغلق سائر أبواب المدينة، ولا يُفتح إلا بعد صلاة الفجر، وتظلُّ البطحاءُ مُجتمعاً للغادين والرّائحين، هذان مظهران من مظاهر الحياة في هذه البطحاء في مدّةٍ لا تتجاوز أربعين عاماً، والغيبُ يُظهر في طيّاته عجائب، فسُبحان من هو كلّ يومٍ هو في شأن»أهـ «مُعجم أوديةِ الجزيرة» (1-90-91). والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
د. عبد الله بن سعد أباحسين - مدير مكتب وزير الشؤون الإسلاميّة العلمي
Abahussain12@gmail.com