د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
وقعت الواقعه وظهر للعالم أن نظام الأسد المجرم قد ارتكب للمرة الثانية - على نطاق واسع - مجزرة إبادة بالسلاح الكيماوي، حين قصف بلدة خان شيخون (إدلب) بقذائف غاز السارين، فقتل مائتين من المدنيين، وأكثر منهم من عانى من الاختناق بالغاز. قبل ذلك بأربع سنوات أزهق أرواح أكثر من ألف إنسان فى الغوطة الشرقيه، وتمخض رد الفعل الدولي عن إجبار النظام على تسليم مخزون أسلحته الكيميائية - مما يعنى ضمناً التعهد (بالتوبة ) وعدم العودة لمثل هذه الجريمه.
غير أن النظام فى ظلّ الحماية والدعم الإيرانيين والروسيين ترجم توبته باستخدام البراميل المتفجرة بدلاً من السلاح الكيماوي. لكنّ المجرم الأصيل لا يتخلى عن سلاحه - لا سيّما إذا كان أرخص من البراميل المتفجرة وأشدّ فتكاً، ففى ضربة واحدة يموت المئات. هذا لا يقلق بشار، لأن دماء شعبه أرخص عنده من ثمن سلاحه. ما يقلقه هو مواجهة ردود الفعل الدولية المستنكرة أو الغاضبة أو المعاقبة، وتأثيرها على الحليف والداعم الأكبر روسيا. لكن المدد جاءه سريعاً من شياطين الإنس. فبعد أيام قليله من وقوع جريمة الإبادة هذه قام مجرم متعاطف مع داعش بدهس أناس أبرياء فى أحد شوارع ستوكهولم عاصمة السويد - البلد المسالم الذى طالما تضامن مع حريات الشعوب وقضية الشعب الفلسطيني، وتعاطف مع الشعب السوري فى محنته المأساوية وأعان واستضاف اللاجئين السوريين وغيرهم.
استهداف المدنيين جريمة بشعة من أي جانب اقتُرفت. فما الذى سيخامر السويديين من المشاعر أو يقفونه من المواقف، عندما يرون مواطنيهم يقعون ضحايا متطرف مدفوع من تنظيم متطرف إرهابي - ولا يهمّهم عندئذ أي اسم يحمله، ولكنهم يرونه يمارس جرائمه الإرهابية باسم الإسلام وتحت راية لا إله إلا الله ؟ ويسمعون كذلك من أبواق نظام الأسد أنه إنما يكافح إرهاب مثل هؤلاء بقصف مواقعهم. ربما لا يغيّر السويديون من مبادئهم، لكنهم سينشغلون لفترة ما - ومعهم شعوب أخرى تحزن لحزنهم - بما أصابهم من أولئك المتطرفين، وهذا بالطبع من مصلحة نظام الأسد : النسيان ! فهل جاء التوقيت مصادفة، أم كان مرتّباً له من قبل ليؤدّى مهمة التعمية على جريمة الإبادة بالسلاح الكيماوي ؟ لم يكتف شياطين الإنس بمدّ يد العون لبشار الأسد فى السويد، بل ما لبث المصريون المسالمون وحكومتهم المحايدة أن روّعتهم تفجيرات انتحارية فى كنيسة بطنطا وأخرى بالإسكندرية قتلت ستين شخصاً وأصابت العشرات. بالطبع لم تحدث مثل هذه الجرائم البشعة فى مصر لأول مرة، بل هي حلقة من سلسلة جرائم منذ أِطيح بحكم الإخوان المسلمين عام 2013، ولا يمكن القطع بمدى علاقة التنظيم السرّي للإخوان بذلك، لكنّ الظاهر هو أن تنظيم داعش تبنّى المسؤولية عن التفجيرات الأخيرة. ولا يبدو أن الأثر الوحيد المستهدف هو إضعاف واستفزاز السلطة فى مصر، وتراجع السياحة والاستثمار، بل إثارة غضب المسيحيين فى مصر والعالم ضدّ الإرهابيين الذين يقتلون باسم الإسلام، وهم الذين قصفهم طيران الأسد فى خان شيخون - كما يوهم النظام وداعموه العالم بذلك. ومثل هذه الجريمة البشعة سوف تجفف بعض الدموع التى ذرفتها شعوب العالم ( أو بعضها) على ضحايا السلاح الكيماوي.
ومرة أخرى: هل توقيت ارتكاب الجريمة المزدوجة جاء صدفة، أم كان مُرتّباً له من قبل للتغطية على جريمة الإبادة الأسدية؟ نظام الأسد لا يفتأ يردّد ويعلن أنه إنما يقاتل متطرفين إرهابيين، وهو فى حاجة إلى افتعال ما يدعّم ادعاءه، وما يجد فيه حلفاؤه الروس والإيرانيون ذريعة لمعاونته فى حربه ضد الشعب السوري. وله سوابق فى ذلك. فعندما أوشكت الدوائر أن تدور عليه فى نهاية عام 2012 فتح سجونه لإطلاق المتطرفين المحبوسين، وفتح حدوده لفلول القاعدة فى العراق. وعندما تبلورت أطراف هذه الجماعات المتطرفة فى تنظيم داعش الأشدّ تطرفاً ركّز التنظيم نشاطه فى الاستيلاء على المناطق التى حرّرها الجيش الحر، ممّا أضعف من قدرات الجيش الحر وشتّت جنوده بين فصائل عدّة. ولم يكن النظام يحلم بأكثر من هذا. بل إن وحشية التنظيمات المتطرفة وتمدّدها فى سوريا وبلاد أخرى وتالياً فى العراق حجب عن أنظار العالم حقيقة أن النظام الأسدي نفسه يعتمد فى حربه ضد الشعب السوري على تنظيمات من متطرفي شيعة لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان والحرس الثوري الإيراني، وهي ترتكب من الفظائع والجرائم فى حق المدنيين السوريين ما لا يقلّ بشاعة عن جرائم متطرفي السنّة. ولكن الأسئلة لا تنتهى. فهل كان النظام الأسدي متعاوناً مع تنظيم داعش وأضرابه ويأتمرون بأمره ؟ إنه - كما هو ظاهر- أضعف شأناً من ذلك. بل الأصح أن النظام يأتمر بأمر من هو أطغى منه. ربما يتضح ذلك من فهم معنى الهدف الاستراتيجي لحكومة الخميني بعيْد استيلائها على الحكم فى إيران، وهو تصدير الثورة الإسلامية. إنه يعنى زرع التطرف فى كل مكان من العالم الإسلامي، ويُسقى هذا الزرع بأحلام ثلاثه: إنشاء الخلافة الإسلامية - الانتصار على أعداء الإسلام والمذهب (أعداء الإسلام هم الغرب وأمريكا وإسرائيل، وأعداء المذهب هم السنّه بالنسبة لغلاة الشيعة والحكام بالنسبة لخوارج السنة) - الشهادة بضمان دخول الجنة والحظوة بالحور العين. هذه الأحلام تُغسل بها عقول الشباب القابل للتأثر من بيئته وثقافته وحمل الكراهية، بحيث تكبّل أفهامهم وعواطفهم، فلا يرون جادّة غيرها، وأن السعي لتحقيقها هو الجهاد بأي صورة وبأي وسيلة. ويتطرّفًون فى هذا كأنهم واقفون على خط البداية، يكفيهم أن يسمعوا صافرة الآمر الناهي لينطلقوا لتنفيذ المرسوم لهم - فرادى أو جماعات - بالدهس أو التفجير أو الاغتيال أو القتال.
السؤال الأخير: أين يوجد المركز الآمر الناهي الذى يتحكّم فى العقول ويحرّك الأجساد بخيوط يمسكها بيده ليوجههم أين يشاء؟