م. خالد إبراهيم الحجي
إن لغة التفاوض والحوار من الدروس المستفادة لصناع السلام التي يمكن تطبيقها بين دول العالم المختلفة بشأن القضايا الدولية؛ لتحقيق المصالح المشتركة على طريقة «تبادل المنافع، أو خذ وهات». وأصبح ذلك نهجًا تتميز به الدول التي تمتلك القوة الناعمة للوصول إلى عقد الاتفاقيات المناسبة بينها وبين الدول الأخرى. وتعرف القوة الناعمة بأنها قدرات الدولة المتعددة الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية وجميع الوسائل السلمية الأخرى التي يمكن أن تستخدمها للتأثير على الهيئات العالمية والدول الأخرى، من خلال العلاقات والمصالح المشتركة للوصول إلى التفاهم المتبادل وتحقيق الإقناع وصياغة الاتفاقيات التي تخدم الطرفين. والميزة الكبرى لاستخدام القوة الناعمة أنها لا تكلف الدولة التي تستخدمها شيئًا، ولا تقدم تنازلات لتحقيق مصالحها الوطنية. والمملكة لا تتوانى عن نشر تأثيرها الاقتصادي والدبلوماسي والسياسي على الساحة الدولية باستخدام قوتها الناعمة من خلال الدعم الكبير للهيئات الإنسانية، مثل: مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، والدخول في الشراكات الاستراتيجية المتنوعة، مثل: عضوية المملكة في مجموعة العشرين الاقتصادية، والتحالفات الدولية، مثل: التحالف الدولي الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب الذي أعلن تأسيسه ولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان في ديسمبر 2015م عبر إنشاء «مركز التحالف العسكري الإسلامي» في الرياض. واليوم أصبحت الظروف مهيأة للمملكة بما تمتلكه من مصادر القوة الناعمة لتشارك بدور فعّال ومؤثر مع القوى الناعمة الدولية الأخرى في تحقيق التأثير على الساحة الدولية للأسباب الآتية:
أولاً: الانخفاض الحاد في الوضع الاقتصادي الأوروبي، وتطبيق خطط قاسية لترشيد الاستهلاك، وانشغالهم بالمحافظة على تماسك الاتحاد الأوروبي، وقلقهم من تفككه وانهياره، وخوفهم من خروج الأعضاء التدريجي بعد خروج بريطانيا منه.
ثانيًا: الموقع الجغرافي الاستراتيجي للمملكة، وتوسطها بين قارات العالم القديم (آسيا وإفريقيا وأوروبا)، وإشرافها على ممرات بحرية دولية استراتيجية عبر الخليج العربي والبحر الأحمر، يمر من خلالها 30 % من التجارة العالمية. وهذا الموقع يزيد قوتها الناعمة تأثيرًا على الساحة الدولية.
ثالثًا: قوة الاقتصاد السعودي: المملكة دولة غنية، واقتصادها قوي ومؤثر، وهي عضو في مجموعة العشرين الاقتصادية. والاقتصاد من أقوى الأدوات الفاعلة في تحقيق القوى الناعمة.
رابعًا: المصداقية الدبلوماسية ونزاهة القيم والمبادئ السياسية: إذ أجمعت أكثر دول العالم التي تعاملت مع المملكة على أنها لم تلمس تفاوتًا أو تباينًا أو تناقضًا بين الدبلوماسية السعودية المتأنية والمحسوبة وما تفعله، وصرحت بتطابق أقوالها مع أفعالها على أرض الواقع.
خامسًا: المملكة القلب النابض لمجلس التعاون الخليجي: مجلس التعاون قوة إقليمية مؤثرة اقتصاديًّا ودبلوماسيًّا وسياسيًّا، إضافة إلى معالجة المملكة لقضايا المنطقة، ورؤيتها العقلانية للشؤون العربية والإسلامية التي عززت مكانتها السياسية في منطقة الخليج والشرق الأوسط وبين دول العالم.
سادسًا: حضارة المملكة ومكانتها العربية والإسلامية التي تختلف اختلافًا كليًّا عن الدول الغربية؛ فجذورها التاريخية ليست شرقية ولا غربية، وإنما عربية إسلامية، وتنفرد بخدمة الحرمين الشريفين، قبلة المسلمين، وجميع الطلبة المسلمين الدارسين في جامعاتها من الدول الإسلامية، والوافدون العاملون فيها من مختلف دول العالم.
وبناء على ما سبق فإن المملكة العربية السعودية مؤهلة لتشارك في إحداث التوازن على الساحة الدولية والتنافس بقوة في ميدان القوة الناعمة الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحتل مركز الصدارة فيه، وتراجعت عنه للسببين الآتيين:
(1): سياسة الكيل بمكيالين: انتهجها الرئيس أوباما، وأصبحت مكشوفة للجميع، مثل: إعلانه أن إيران دولة ترعى الإرهاب، وفي الوقت نفسه وقّع معها اتفاقية النووي المثيرة للجدل.
(2): الانسحاب من بعض الاتفاقيات المتعددة السابقة: بعد أن تولى الرئيس ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية أعلن استراتيجياته الجديدة التي شملت الاقتصار على الاتفاقيات والشراكات الثنائية، وانتهاج ما سماه «بسياسة حماية المصالح الأمريكية من التوسع الشديد في الالتزامات الدولية التي وصلت إلى حد الإفراط» (على حد تعبير الرئيس ترامب نفسه)، ويقصد بها الخروج الأمريكي المنظم من الالتزامات الدولية التي تعهدت بها أمريكا، وفض الشراكات والتحالفات الدولية متعددة الأطراف التي دخلت فيها الحكومات الأمريكية السابقة، مثل: الانسحاب من اتفاقية باريس للتغيرات المناخية المكونة من 140 دولة، والانسحاب من حلف الباسيفيك التجاري المكون من 11 دولة. وهذا التراجع الأمريكي التدريجي في ميدان القوة الناعمة الذي بدأ خلال فترة الرئيس أوباما سيستمر خلال فترة الرئيس ترامب أيضًا بسبب استراتيجياته الجديدة؛ وسيترك فراغًا كبيرًا وغيابًا ملموسًا للقوة الأمريكية الناعمة الرئيسية على الساحة الدولية. وبما أن المملكة أصبحت تمتلك القوة الإقليمية الناعمة والمؤثرة في الوطن العربي وإقليم الشرق الأوسط والعالم الإسلامي فقد بادرت المملكة إلى الانضمام إلى الدول القوية الأخرى التي تمتلك القوة الناعمة، والمساهمة معها في التأثير على الساحة الدولية، ويؤيد هذه المبادرة السعودية والمساهمة الفعلية اختيارها الزمن والتزامن المحسوب بدقة بين جولة خادم الحرمين الشريفين إلى الدول الآسيوية، التي تعتبر نموذجًا مثاليًّا لتوظيف القوة الناعمة التي نتج منها اتفاقيات في المجالات العلمية والتقنية، والاقتصادية والسياسية والعسكرية بمليارات الدولارات.. وبين توقيت رحلة ولي ولي العهد وزير الدفاع السعودي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والاجتماع مع الرئيس الأمريكي لاستثمار تفضيله الاتفاقيات الثنائية التي أعلنها.
الخلاصة:
إن أيقونة الوطن ليست بخصوص القوة العسكرية والاقتصادية فقط؛ فالقوة الناعمة للوطن أيضًا تصنع الفرق، والمصداقية السعودية استطاعت أن تأسر اهتمام العالم.