د. محمد عبدالله الخازم
كتبت قبل سنوات محذّراً من التوسع العشوائي في افتتاح كليات الطب، وللأسف بدا صوتي شاذاً أمام الموج الهادر المطالب بسعودة الطب بأسرع ما يمكن. كانت نظرتي وما زالت تركّز على أن مهنة الطب ليست مجرد مقعد جامعي أو أعداد تملأ الشواغر الوظيفية، بل عميلة متواصلة من التدريب والتأهيل لسنوات طويلة ويجب عدم التسرّع في سعودتها على حساب جودتها.
لم يستدركوا الخطر؛ عمداء كليات الطب فشلوا ولجنتهم الصورية في مناقشة الأمر وفق أسس علمية، هيئة التخصصات الصحية كانت صامتة ومشغولة بقضايا أخرى، هيئة الاعتماد الأكاديمي اهتمامها كان وما زال بالنماذج والدورات ولم نر أثرها في تطور المخرجات. استسلم للضغوط المجتمعية والتجارية فسمح بالطب في جامعات ناشئة وكليات خاصة دون الاهتمام بما بعد تخرّجهم. للأسف هذا كان وضعاً عاماً في تعليمنا الجامعي، حيث فتحت ابوابه خلال العقدين الأخيرين بشكل عشوائي. كنا نرحل المشاكل للمستقبل ولم ندرك أن الخطوة الصغيرة التي تحدثها في التعليم اليوم تأتي نتجائها بعد عقد أو عقود من الزمن. وبالطبع نتائج سوء التخطيط في الماضي تتحول إلى عبء في الحاضر. عبء يضع المؤسسة الحالية تحت ضغوط المطالبة بإصلاح تراكمات عقود من الزمن خلال يوم وليلة..
ها هي اختبارات ممارسة المهنة تفضح سوءة تعليمنا الطبي؛ خمسة آلاف خريج من كليات الطب السعودية أكثر من نصفهم لن يجد مقعداً تدريبياً للتخصص وعشرين في المائة منهم ليسوا مؤهلين حتى للحصول على رخصة الممارسة الطبية.
ويمكن إضافتهم إلى من تعثروا أو لم يكملوا مشوارهم الدراسي أو التدريبي أو المهني!
كنت أفكر بالمطالبة بالعقوبات على الكليات التي أخفق طلابها في اختبارات رخصة المزاولة، لكن لا أرى أحداً يعبّر عن قلقه فمن سيعيرني الانتباه؟!
أحد الحلول العلمية - يتبعه حلول أخرى- وأطالب به كخبير وليس مجرد كاتب، هو أن نبدأ بالمدخلات فنفرض معايير صارمة (موحّدة) للقبول بكليات الطب يلتزم بها الجميع. علينا التعلّم من النظام الأمريكي والكندي، حيث لا يقبل في الطب من لا يجتاز اختبارات معيارية مثل اختبار (إم كات) المطبّق على الجميع واختبار (كاسبار) الذي تطبّقه بعض الكليات، بغض النظر عن الكلية خاصة أو حكومية، إضافة للشروط الأخرى. اختبارات القياس والتحصيل ليست مصممة لاختيار المؤهل لمهنة الطب. يجب أن لا يتاح للكليات الخاصة، وطلابها حققوا أسوأ النتائج، قبول الطلاب بناءً على معاييرهم المادية، بل وفق معايير موحّدة مثل غيرهم. يجب أن لا يدخل الطب سوى من هو مؤهل للاستمرار والمواصلة في الدراسة والمهنة بحماس وتميز. وأضيف فكرة أخرى - سأفنّدها في مقال آخر- تتمثَّل بالمطالبة بتعليم التخصصات الطبية والصحية بعد المرحلة الجامعية وليس الثانوية.
أشكر هيئة التخصصات الصحية على إعلانها نتائج اختبارات مزاولة المهنة للطب وطب الأسنان والتمريض، لكن ذلك لا يكفي دون طرح الحلول. أطالبهم بمناقشة القضية في مؤتمرهم الذي سيبدأ اليوم. هيئة التخصصات الصحية، وفي ظل غياب هيئة الاعتماد الأكاديمي، يقع عليها مسؤولية أدبية ومهنية لتكون أكثر فعالية في الدفع بأجندة إصلاح التعليم الطبي والصحي بكافة فروعه...