هدى بنت فهد المعجل
ذات تغريدة كتبت في تويتر: (فشل المدن في زرع جذورها داخلنا جريمة عظمى ضد الانتماء)، ثم شرعت أفكّر في الانتماء Belonging المقابل لمصطلح Belong في اشتقاقه من الفعل.. الانتماء المعنى العكسي للاغتراب أو اللا انتماء!! على اعتبار أن الانتماء حاجة ضمن الحاجات النفسية الضرورية لمواصلة العيش، بالتالي التأقلم مع أجواء ذلك العيش، الأجواء المكانية والزمانية والاجتماعية.
توصل العلماء إلى أن الانتماء حاجة فسيولوجية كامنة في المخ يمكن للداخل أو الخارج استثارتها بسهولة استثارة يترتب عليها نشاط للفرد مستمر حتى توقف المثير، وتغيّر الموقف، بجانب أن الانتماء يعمل ويتضح بصورته الجلية ضمن المجموعة وليس الفرد، مما جعله حاجة اجتماعية أكثر منه حاجة فردية؛ كي يتحقق للمجتمع تماسكه، ويجد الأفراد الاستقرار وبالتالي نضمن القوة المؤثّرة.
نشطت الدراسات لصالح هذا الاحتياج الجماعي وحاولت رصد مستواه كحاجة نفسية واجتماعية انطلاقاً من زوايا عدة مهمة تتمثل في جدلية الحق والواجب، وجدلية المربي والناشئ، وعلاقة المدرس بالتلميذ، وعلاقة المشغل بالأجير، وعلاقة الزوجة بالزوج، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة السياسة بالتنمية والتقدم؛ ذلك لأن الفرد يعاني من صعوبات تواجهه كلما حاول إيجاد ذاته داخل واقع العالم الذي يعيش ويحيا فيه مما ترتب عليه الشعور بعدم قيمته وضياع المعنى السليم للحياة ضمن هذا العالم. (حيث إن استبعاد بعض أفراد المجتمع من المنظومة السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية للبلد يؤثر في الانتماء لديهم وبالتالي يفقد علاقته وشعوره بعالم يحيط به ويتساكن معه، ويشعر به كسجن كبير ينتظر ساعة الخروج أو الهروب النهائي منه. . سجن فاقد لقواعد العدل والإنصاف والمساواة التي تُعطى للقلة المهيّمنة وتُحرم منها الكثرة الضعيفة أو البسيطة، مما ترتب عليه تحول الإنسان إلى مجرد رقم ضمن منظومة مجتمعية، وإحساسه بهذا التحول يفقده الشعور بالانتماء الذي يجهل معناه أصلاً. . فإذا هو لم يواجه الوضع الذي يعاني منه، فكر في الخلوص والفرار من موت إنساني محقق).
ليس هيناً على الفرد أن يشعر بتفاهته، واضمحلال المعنى السامي للعيش، وفقدان الأمل في الحياة الكريمة, الشعور الذي ربما يصل به لتوهم الانقراض!! في حال لم يجرفه الوضع إلى عالم المخدرات والقنوات الإباحية والإجرام. فالشغب في الأحياء والمدرجات الرياضية، والعبث بمقدرات الدولة، وافتعال المشاكل في الشارع وبين الأفراد ما هي إلا وجه من أوجه فقدان الإحساس بالانتماء والعيش على قاعدة (نحن) لا قاعدة (أنا) ومن بعدي الطوفان!!.
السلبية الناتجة عن عدم الشعور بالانتماء تتضح أعراضها عند من يقاومها في سلوكيات كثيرة سيئة تظهر على سطح المجتمعات المحافظة كظاهرة جديدة عليها، وبالتالي يستنكرها المجتمع استنكار غير قامع لها وإنما يتعامى عنها إلى أن تتمدد فتصير ظاهرة متفشية يستحيل نزعها أو قصقصة أجنحتها. ليس من السهولة الثبات أمام الفقر المادي والمعرفي والعاطفي عندما تعاني منه الغالبية العظمى في المجتمع ويصبح الحظ الأوفر للعيش المرفه للطبقة المخملية التي تشكل أقل نسبة في المجتمعات العربية والإسلامية. . فهل بعد ذلك ننتظر من الشريحة العظمى في المجتمعات المقموعة أن تشعر بالانتماء وتتعامل وفقه؟!. . أو ننكر عليها أحاسيس الشعور بالاغتراب، وهويته تتدمر أمامه؟!. . فإذا لم تتحقق له الهجرة الفعلية عاش بإحساسه في الهجرة اللا شعورية في عوالم يفترضها لذاته تتضح في التقليد ومحاكاة الغرب وما إلى ذلك.
ما تحتاجه الدول: إعادة صياغة مقترح يعيد إليها شعوبها بعد إعادة الإحساس بالانتماء، قبل أن يكون الانتماء مجرد أسطورة في أجندة تأريخ. . فالتنميط والتدجين والتهجين أضرّت بالمجتمعات أيما ضرر، والحل في إعادة الاكتشاف وإعادة الصياغة للمقترحات حيث لا قيمة للفرد في مجتمعه بدون كرامة وبدون الشعور في التكيّف معه الذي هو الوجه الساطع للانتماء.