عبدالعزيز السماري
المقولة الشهيرة لغوبلز (وزير الدعاية الألماني ابان حكم هتلر) في السيطرة على العقول، «كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي»، لا تعني ذلك المثقف في إطاره المعرفي أو النخبوي أو الإعلامي..
ولكن ذلك المثقف الذي يخرج من داخل الكيان المجتمعي الساعي لتحديد وعيه القادم، والذي يحدث تحت أنظار السلطات أو خلف ظهرها، فالأيدولوجيا مهما كانت خلفيتها تؤطرها وتغيرها حاجات المجتمع ومواقفه من السلطة.
وفي جانب آخر، لا يمكن إغفال دور الاقتصاد والبنية المالية في المجتمع في توجيه وتأطير الثقافة أو الوعي السياسي في مستقبل الأيام، ومما لا شك فيه أن الوعي الجديد ينتج رموزه القادرين على تحويل الفكر أياً كان إلى موقف سياسي محدد.
لو أخذنا الصحوة الدينية في بدء الثمانينات الميلادية، والتي كانت في البدء احتفالية كبرى في بدء تشكيل الطائفية الجديدة، وقد كان لها منابر وجبهات قتال، تم استغلالها لأغراض سياسية عليا، لكن ذلك لم يمنعها لاحقاً في استغلالها لتأطير الوعي السياسي الشعبوي، وكان ثمن ذلك اصطدام مع السلطات في العالم العربي.
لا يمكن إغفال الفشل الاقتصادي في تحدد وعي الشعوب حسب خلفيتها الثقافية، فعلى سبيل المثال وجدت الماركسية موطنها في روسيا القيصرية، وفي مجتمع تسود فيه فئة العمال والمصانع والمزارع، ووجد الكيان الاجتماعي المسحوق ضالته في الشيوعية من أجل حل أزمته الاقتصادية، فكانت النهاية سقوط حكم القياصرة، بسبب اختلال ميزان الاقتصاد، وظهور فجوة كبرى بين الطبقات الاجتماعية.
لذلك كان الاقتصاد أكبر عامل موجه للوعي الديني في حقبة الثمانينات، فقد كان المجتمع يعيش في ظل صحوة دينية لها رموزها أو مثقفوها، وكانت قلة الموارد المالية عاملاً مشتركاً بينهم وبين المجتمع، فرموز الظل كانوا يبحثون عن موقع لهم في سلم المجتمع، وكان لهم ما أرادوا، فقد أنهالت لاحقاً عليهم الثروات من كل صوب.
كان نتيجة ذلك التحول المادي الكبير بين رموز الصحوة أن تخلوا عن أطروحاتهم السابقة، بعد موجة الثراء الفاحش لاحقاً، وأصبحوا في هذا العصر يعدون من نجوم الشاشة المعروفين، ولم تمنعهم مواقفهم المتشددة السابقة أن يتصالحوا من نجوم الفن والرياضة، وأن تجدهم في حفلات تكريم المطربين واللاعبين، والسبب المتغير الاقتصادي، مع احتفاظهم بملامحهم السابقة!
هذا دليل حي على أن الاقتصاد محرك رئيسي في توجيه الكيان الاجتماعي اليائس في البحث عن وعيه السياسي الجديد، إذا لا يمكن أن ترتفع نسب بطالة أو فساد مالي في مجتمع، ولا يبدأ معها حراك سياسي متوازن، ولو كان ذلك خفياً أو يدور حراكه على الهامش.
ترتفع أسهم الحراك السياسي في أي مجتمع إذا كان الأمن والتعليم يقوم على ترسيخ أيدولوجيا سياسية محددة، وفي نفس الوقت ترتفع نسب الفساد المالي وتتباعد أطراف الهوة بين الغنى والفقر، ومهما حاول غوبلز وغيره أن يسيطر على العقول من خلال طرح نظري محدد،ستجد العقول منافذ لها في نفس النظرية للخروج من بيت الطاعة.
لهذا السبب أدركت دول الشمال الأوروبي، على وجه التحديد، أن لا مكان للتنظيم الأيدولوجي المبني على مواقف نظرية خارج قانون الحقوق في المجتمع، وفي نفس الوقت أوجدت تلك الدول نظاما اجتماعيا واقتصاديا يضمن حياة كريمة للمواطنين، بعد أن فتحت الحكومات فرص التعليم والعمل للجميع بدون استثناء، وذلك لئلا يكون الاقتصاد محركاً خفياً لوعي سياسي آخر، قد يؤدي إلى نهاية الدولة وتنظميها الاجتماعي..
لهذا لا بد أن تدرك السلطة أياً كانت في عالم العرب والمسلمين أن الوعي السياسي يتكون في الهامش و الأطراف و الحوارات الجانبية، و تفتح له العقول أبوابها كلما فشلت الدولة في تخليص نظامها من آفات الفساد والبطالة والإقطاع وتكدس الثروات في فئات قليلة، بينما تغرق الغالبية في كوابيس الديون وخطر الإفلاس ..