حمّاد السالمي
* دارين.. وما أدراك ما دارين. تقول عنها كتب البلدان: بأنها قرية من قرى جزيرة تاروت في محافظة القطيف بمحاذاة بحر الخليج العربي في المنطقة الشرقية. لها شهرة تاريخية وتجارية قديمة؛ فقد كانت من أهم موانئ الخليج العربي. كان ميناؤها حلقة وصل ومدخلا مهمًا للبضائع منذ ما قبل الإسلام وبعده. ترد إليه السفن من الهند؛ محملة بالتوابل والمنسوجات والسيوف الهندية والمسك والبخور والأحجار الكريمة والعاج والخشب الفاخر النادر. ومن الصين؛ محملة بالحرير والمنسوجات الحريرية والخضار، ومن بلاد العرب الجنوبية؛ محملة بالتمر واللبان والبرود اليمانية والعاج الوارد إليها من سواحل إفريقيا الشرقية، ثم تعيد تصديرها إلى جميع أنحاء العالم، ومنها كان أهل البادية وسكان أواسط شبه الجزيرة العربية يفدون إليها، فيبتاعون معظم حاجاتهم، فتمر قوافلهم عبر الدهناء في طريقها إلى الأحساء والقطيف، ثم تعبر الجزيرة عبر المياه الضحلة، وفي ذلك يقول أعشى همدان:
يمرون بالدهناء خفافًا عيابهم
ويرجعن من دارين بجر الحقائب
* وارتبط اسم دارين؛ بأجود العطور الآتية من الهند، حتى أصبح مسك دارين نوتة شعرية يستعملها كل شاعر في شعره، يشبه به طيب ما أعجبه من شيء، ومن ذلك قول ابن حمديس الأزدي الصقلي:
فَما فازَ بِالمِسكِ إلا فتىً
تَيَمّمَ دارِينَ أو دارَها
* حَضَرت دارين ماضٍ وحاضر؛ بكل المئين من السنين؛ تاريخًا وتجارة ومسكًا ولؤلؤًا؛ في صلب الأدب والفكر والثقافة في فضاءات نادي المنطقة الشرقية الأدبي. فضاءات للكلمة والحوار والشعر والأدب والتاريخ، يفتحها النادي بين وقت وآخر، في أبهى صورة، وأجل هدف، قافزًا على كل دوائر التعطيل، ومتجاوزًا حدود منطقته الجغرافية، إلى آفاق محلية وخليجية وعربية وحتى دُولية. وهذا بالضبط ما لمسته ورأيته في (ملتقى دارين الثقافي الثاني) قبل أيام في الدمام، فقد شهد هذا المحفل الثقافي الكبير؛ أدباء ومثقفون من كافة مناطق ومحافظات المملكة، ومن دول الخليج، ومن أقطار عربية وإفريقية وآسيوية.
* جاء عنوان الملتقى جديدًا وملفتًا حقيقة. (المؤسسات الثقافية الأهلية والخاصة.. المنجز وآفاق المستقبل). كنت واحدًا من بين أكثر من أربعين صاحب منتدى ثقافي خاص، إلى جانب عشرات المنتدين والمحاورين من أصحاب الرؤى الفكرية البناءة. التجارب المستخلصة من جلسات الحوار على مدى ثلاثة أيام؛ عكست نجاحات كثيرة يعود الفضل فيها أولا وآخرًا؛ إلى (أفراد) متطوعين متحمسين لخدمة الأدب والثقافة في مجتمعاتهم، وليس إلى مؤسسات من مجموعة أشخاص كما قد يشي به مصطلح (مؤسسات)، وهذا شائع في عموم المملكة، بعكس ما هو موجود في بعض الدول العربية وغيرها، من كون المجتمع المدني هو الذي يتداعى لإنشاء مؤسساته الأدبية والثقافية، فلا يكلف الدولة شيئًا. هناك مؤسسات مجتمع مدني، وهنا مؤسسات أفراد يغرمون ولا يغنمون؛ إلا رضاهم عن خدمة الأدب والثقافة في مجتمعاتهم، وليتهم مع ذلك يسلمون من المنغصات والمعرقلات؛ التي تنطلق عادة من الشك، ومن سوء الفهم أحيانًا، ثم الجهل بدورها الريادي في الوسط الثقافي، وقد يكون الحسد ضمن طيف التنغيص والتطفيش المتعمد.. لا فرق. كلها عصي توضع في دواليب الحركة لكي تتوقف..!
* مثلما نجح لقاء دارين الثقافي في الدمام؛ في تشكيل طيف ثقافي واسع لوجوه سعودية وخليجية وإفريقية وآسيوية؛ فقد أتاح جملة من لقاءات فكرية وأدبية واجتماعية وأخوية على هامش الملتقى ذاته، لا تقل أهمية عن المكاشفات الحوارية التي تداولها المنتدون في البرنامج. كنا على موعد مع زيارات حبية، ولقاءات جانبية، ومحادثات حميمية، توزعت بين قاعة البرنامج، وبهو الفندق، والمركب البحري الذي أقلنا فوق الماء إلى دارين. ثم سعدنا كذلك بلقاءات خاصة مع أصدقاء كثر في الدمام والقطيف، ومنهم الشيخ حسن الصفار في مجلسه العامر بداره، ومكتبته الزاخرة بالدارسين والباحثين. عرّابا هذه اللقاءات الودية؛ هما الصديقان الأديبان: (فاضل العماني، وحبيب الشمري)، فلهما الفضل في التقريب بين المتحابين، وفي التعريف أكثر بما تزخر به المنطقة الشرقية من مكونات تاريخية وسياحية وفكرية وإنسانية أيضًا، فلهما الشكر كل الشكر على هذه الجهود التي ساندت ودعمت جهود نادي الشرقية في هذه التظاهرة الثقافية المميزة.
* لن أكون مبالغًا وأنا أقول: بأن نادي المنطقة الشرقية الأدبي؛ ناب عن وزارة الثقافة والإعلام، وعن فروعها ومؤسساتها كافة؛ في تقديم شكل جديد من أشكال البحث والحوار، باستهدافه المؤسسات الأهلية والخاصة التي تنشط في مجال الأدب والثقافة. هذا أمر لم يُطرق من قبل على مستوى رسمي، وظلت هذه المنتديات الخاصة؛ تعمل دون ذكر أو عناية أو اهتمام من أحد. ومن نجاحات نادي المنطقة الشرقية البارزة انطلاقًا من ملتقى دارين هذا؛ أنه قدم تعريفًا بما تشتمل عليه المملكة من منتديات ثقافية خاصة يصل عددها إلى (127) منتدى. ثم زاد وكرّم من حضر من أصحاب هذه المنتديات، ثم ناقش دورها وهمومها وما ينتظر منها في المستقبل، وقدم فوق هذا؛ جملة من توصيات علمية مدروسة، موجهة للحكومات، وللمجتمعات، ولأصحاب هذه المنتديات الرواد في صناعة الثقافة خارج عباءة المؤسسات الرسمية.
* شكرًا نادي المنطقة الشرقية الأدبي. شكرًا صديقنا الأديب محمد بودي رئيس النادي، وكافة أعضاء مجلس الإدارة.