د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
بعد الأزمة المالية التي ألمت بالعالم عام 2008 نتيجة أزمة الرهون العقارية في أمريكا، والعالم يبحث عن عملية إنعاش عبر تسهيلات نقدية مفرطة ومحفزات مالية غير الملائمة حتى أن البعض يعتقد أن الرأسمالية في أيامها الأخيرة، وأنه حان الوقت لإعادة إيقاظ حارس الرأسمالية.
صياغة السياسات الاقتصادية يختلف من قطاع إلى آخر ومن دولة إلى أخرى رغم هذه الجهود، ولكنها تبدو وكأنها حققت قدراً متواضعاً من النجاح، مما تترك العديد من المستثمرين والمحللين في حالة من التشاؤم المستمر، خصوصاً وأن صياغة السياسات الاقتصادية هي بين العمليات الإصلاحية التقليدية أو غير التقليدية في السياسة النقدية وبين الإصلاحات التي تتوافق مع الديمقراطية الاجتماعية، فيما البعض يحاول إخضاع ماكينة الثروة الرأسمالية للأهداف السياسية، لكن في الوقت الحاضر يعتقد البعض أنها أصبحت خارج نطاق السيطرة، خصوصاً قبالة القوى الاجتماعية الافتراضية الخارجة عن السيطرة أيضاً.
الأعراض الثلاثة الرئيسية لأزمة الرأسمالية هي تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع المديونيات وزيادة عدم المساواة في الدول الرأسمالية الكبرى وهي مستمرة منذ السبعينات من القرن الماضي سرعت من تلك الفجوة الأزمة المالية عام 2008، ويعتبر البعض سبب ذلك هو افتقار الاقتصاد العالمي إلى دولة عالمية، وأن النظريات الرأسمالية لم تكن سوى نظريات الأزمات المالية الكبرى.
هناك من يتساءل عن تسجيل مؤشر داو جونز الصناعي ارتفاعا لعشرة أيام متوالية في فبراير 2017 شكلت أطول مسيرة صاعدة منذ الرقم القياسي الذي سجله المؤشر في أوائل 1987، حيث إن الارتفاع القياسي في الأسهم والسندات يقلق الأسواق، حتى أن البعض بدأ يتساءل ما درجة الغثاء التي تبدو عليها تقييمات الأسهم والسندات الخطرة؟.
وبحسب خبراء الاستراتيجية في يو بي إس يصبح من المستحيل تجاهل المخاطر على اعتبار أن السندات الأمريكية ذات العائد المرتفع احتسبت بشكل غير واقعي، وكذلك نجد أن احتساب الأسهم كذلك ارتفعت أيضا إلى مستوى لم تشهده أسواق الأسهم منذ طفرة الإنترنت إذا ما احتسبت نسبة السعر إلى الأرباح المعدلة دورياً.
توقع المستثمرون بعد تصريح مسؤول من الاحتياطي الفيدرالي برفع معدلات الفائدة الذي أدى إلى ارتفاع عائدات السندات إلى أعلى بشكل حاد وصل إلى 2.5 في المائة لأجل عشرة أعوام، فيما ارتفع العائد على السندات لأجل عامين إلى مستوى 1.3 في المائة ليصل إلى أعلى مستوياته منذ عام 2009، رغم ذلك ارتفعت عائدات السندات لأجل عشرة أعوام أكثر من عائدات السندات لأجل عامين حيث كان من المفترض أن تكون أعلى عائداً من السندات طويلة الأجل.
خصوصاً وأن الإدارة الأمريكية ستقدم على إصدار سندات لخمسين عاماً من أجل المساعدة في تمويل توسعها المالي، خصوصاً فيما يتعلق بالبنية التحتية، لذلك اتجه الاحتياطي الفيدرالي في 15/3/2017 إلى رفع سعر الفائدة على الدولار من 0.75 في المائة ليصل إلى واحد في المائة، وهذه هي المرة الأولى في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث كان أرجئ رفع أسعار الفائدة في مطلع فبراير 2017 انتظارا لاتضاح الرؤية حول التوجهات السياسية المالية للرئيس الجديد، خصوصاً وأن الفيدرالي يستهدف تضخماً نسبته اثنان في المائة، ويعتمد مقاساً للتضخم يبلغ معدله الحالي 1.7 في المائة، بعدما ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين (معدل التضخم ) خلال 12 شهراً حتى فبراير 2017 إلى 2.7 في المائة وهو أكبر زيادة على أساس سنوي منذ مارس 2012، بعدما كانت الفائدة أكثر من 5 في المائة عام 2007 انخفضت إلى 0.25 في المائة بعد الأزمة المالية عام 2009، ويرجع اتجاه التضخم للارتفاع جزئيا إلى تلاشي الانخفاض الذي شهده عام 2015 نتيجة هبوط أسعار النفط.
وكان على خطى المركزي الأمريكي ثاني اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة الصين التي رفعت من الفائدة قصيرة الأجل في مسعى لدرء شبح تدفق رؤوس الأموال إلى خارج البلاد لتخفيف عملية استنزاف احتياطياتها من النقد الأجنبي والحفاظ على استقرار اليوان بعدما رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وهي الثالثة للصين في عدة أشهر، حيث تتطلع الصين إلى احتواء المخاطر الناجمة عن سنوات من التحفيز المدعوم بالديون وزيادة التكلفة التي يتحملها المضاربون على انخفاض اليوان.
ليس فقط الصين بل وبريطانيا ودول الخليج التي تربط عملاتها بالدولار رفعت من الفائدة حيث لا يوجد أحد بمنأى عن الولايات المتحدة عندما ترفع الفائدة، كما قرر عدد من البنوك المركزية حول العلام رفع الفائدة على الإقراض والإيداع لمواكبة القرار الأمريكي.
سبق أن رفع الفيدرالي الفائدة خلال اجتماعه نهاية 2016 ربع درجة مئوية بعد عام كامل من رفع مماثل في ديسمبر 2015، كان الأول بعد 10 سنوات كاملة من ثباتها، ويتوقع أن يقوم الفيدرالي برفع الفائدة مرتين أخريين على الأقل خلال العام الحالي مدعوما بقوة الاقتصاد الأميركي واهتمام ترامب بزيادة النمو.
يجادل خبراء الاستراتيجية في جيه بي مورجان تشيس بالقول نحن نعتقد بأنه قرار صعب ما إذا كان البنك المركزي الأوربي سيجري تعديلات على توجيهاته المستقبلية، بالإشارة إلى كون المخاطر الكلية متوازنة بدلا من أن تكون مائلة نحو الجانب السلبي، وإلى إزاحة التحيز الهبوطي على أسعار الفائدة الرسمية، فيما يرى صناع السياسة الحذرون بأنه يجب الحفاظ على الانتعاش في أوربا قبل النظر في أي تخفيض في التحفيز، وإعلان البنك المركزي الأوربي تمديد برنامج شراء السندات حتى ديسمبر 2017 مع خفض عمليات الشراء الشهرية من 80 مليار يورو إلى 60 ملياراً.
مع بداية شهر مارس 2017 دخلت أسواق الأسهم الأمريكية فترة اندفاع صعودي إذ وصل مؤشري إس آن دبي 500 ودو جونز الصناعي نحو رقمان قياسيان جديدان للمؤشرين 2400 لمؤشر إس آن دبي 500 و21000 لمؤشر داو جونز الصناعي، كذلك وصول سندات الخزانة الأمريكية لأجل عشرة سنوات 2.5 في المائة يعتبر أكثر أهمية من الرقمين السابقين رغم أنه لا يزال الرقم بعيد عن 3 في المائة الذي وصل له قبل ثلاثة أعوام، بسبب أن مستثمري السندات لا يصدقون إثارة النمو في سوق الأسهم بسبب أن سوق السندات تفرض نفوذا هائلا على أكثر الأسواق كثافة من حيث التداولات.
رغم ذلك يعد الدولار أعلى من قيمته الحقيقية يمكن أن تكون العقبة الأكبر أمام أمريكا أولاً الذي وعد بذلك رئيسها الجديد ترامب مما يجعل الدولار أكثر تكلفة بالنسبة للأجانب وستصبح الواردات الأجنبية أرخص بالنسبة للأمريكيين مما يمثل عقبة أمام الصادرات الأمريكية وهو عكس أجندة الإدارة الجديدة في تنشيط التجارة الأمريكية.
وما يزال كل من البنك المركزي الأوربي وبنك اليابان يتدخلان للحفاظ على أسعار فائدة منخفضة كشكل من أشكال التحفيز لسوقيهما لكنها في نفس الوقت تساهم في دفع الدولار نحو مستويات أعلى، فيما خطط ترامب حتى الآن لا تساعد في خفض قيمة الدولار، فقط يتجه نحو استخدام النظام الضريبي لجعل الواردات أقل جاذبية، لكنه يتجاهل سوق تجارة المناقلة المتمثل في سوق العملات الأجنبية وهي أموال تتدفق نحو الأماكن التي فيها تتحقق عوائد أعلى، وهذا النوع يفشل إذا تراجعت العملة المستهدفة وبما أن تأثير تجارة المناقلة هو إضعاف العملة ذات العائد المنخفض على حساب العملة ذات العائد الأعلى.
تسلقت الأسهم الأمريكية مدفوعة بأمل تحرير ترامب الأنظمة وإجراء تخفيضات ضريبية وإنفاق حكومي وتطبيق سياسات أكثر ملاءة للشركات، فيما أن مستثمري الدخل الثابت في السندات يعتقدون أن الإدارة الجديدة ستكون قادرة على إعطاء دفعة للاقتصاد، حيث تؤدي إلى طفرة نمو دائم وفي نهاية المطاف أسعار فائدة أعلى بكثير، أي أن سوق السندات يتخذ وجهة نظر مختلفة تماماً عن سوق الأسهم.
رغم أن بعض الاقتصاديين الأمريكيين لديهم تشاؤم بسبب أن الولايات المتحدة تعاني تحديات هيكلية تواجه الاقتصاد الأمريكي مثل انخفاض الإنتاجية وشيخوخة السكان فضلا عن وفرة المدخرات العالمية التي تسحق عائدات السندات، كذلك يفرقون بين أسعار الفائدة الحقيقي المحايد يرونه بأنه قريب من الصفر أو أنه سلبي، لكنه يرتفع إلى 1.6 في المائة إذا كان التضخم عند مستوى 2 في المائة، بينما يرى المستثمرون أن أفضل مقياس هو سعر الفائدة الطبيعي يعبرون عنه بسعر الفائدة الآجل الذي ارتفع بشكل حاد من 2.6 في الصيف لكن في الآونة الأخيرة بعد انتخاب ترامب استقر المقياس عند 3.6 في المائة مقارنة بالمتوسط على الأمد الطويل الذي بلغ نحو 5.5 في المائة، ويعتبر الاحتياطي الفيدرالي أن سعر الفائدة الطبيعي أمر حيوي الذي من خلاله يستطيع رفع سعر الفائدة القياسي.
يمكن أن تكون ارتفاعات الأسعار الحادة التي تتم بلا رادع دلالة على الإفراط في المضاربة، ودائما الحكم على سوق الأسهم من خلال مضاعفات الأسعار إلى الإيرادات، فإنها لم تصل قط لمثل هذا المستوى من الارتفاع في الأسعار، وعلى مدى 40 عاماً كانت أفضل عشرة أيام بالنسبة للمستثمرين يحققون فيها نصف مكاسبهم الرأسمالية، وكان يمكن تجنب أسوأ عشرة أيام إلى تحقيق مكاسب رأسمالية بمقدار مرتين ونصف مرة، وهو يعود إلى المؤقتين السيئين للسوق أي الدخول بسعر مرتفع والخروج بسعر منخفض، وكلما كان توقيت السوق أسهل كانت الفرصة أكبر في توقيت السوق بشكل سئ، كما أن مستشاروا الاستثمارات يتقاضون رسوما بدلا من العمولة يجعلهم يحركون العملاء دخولا وخروجا أكثر مما يحتاجه الأمر، لذلك الأنموذج الآلي الذي يحافظ على تخصيص ثابت بشكل معقول للأصول ويعيد التوازن بكثرة غالبا ما يكون أقرب إلى المنطق وضبط السوق وجعل السوق أكثر عقلانية.