أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: مذهب الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: (أن لا نضفي أدنى زمان بين فهم العاقل وتمييزه، ولا يدري العاقل كيف وقعت له معرفته تلك؟).. وما ذكره هذا الإمام الجليل رحمه الله تعالى ليس بصحيح، ونصوص الشرع المطهر تنفيه؛ وبيان ذلك: أن الله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً، وليس عندنا إلا الوعي الذي هو هداية الله الكونية؛ وهي أخذ الرضيع الثدي يلتقمه ويمصه؛ ليتغذى به؛ وقد يمص الأصبع ليرضع؛ ولكنه يرفضها تواً؛ إذ لم يجد فيها إدراراً، ولا يلتقم غير الثدي، ثم يظل ينمو حسه بفطرة الله الكونية، ويظل إحساسه منقوشاً في عقله إدراكاً وحفظاً وتذكراً؛ وهذا معنى: (أن العقل صفحة بيضاء، والحس ينقش فيها معارفه)؛ فإذا بلغ الحلم، أو قبيل ذلك بالنسبة لنوادر الأذكياء): كون الله له معارف بالحواس سمعاً وبصراً ولمساً وذوقاً؛ (وهو لمس حاسة الشم في الأنف)؛ ثم يشرع في الاستنباط من معارفه، وتنشط ملكة الخيال في تصوره عوالم لا يحقق وجودها بذلك التركيب في واقع الأعيان، ولا يحيل وجودها كذلك اتكالاً على قدرة الله جل جلاله، وحسبه أن مكونات ما ركبه الخيال مدركة بحواسه وعقله، مبثوثة في عالم الأعيان، ومحال التخيل بغير تلك المكونات من عالم الأعيان؛ فالزمان موجود بين إحساسه ومعقوله سواء أعلمه وأحصاه، أم علمه ولم يحصه، أم علم شيئاً منه وأحصاه.. وما ذكره الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى آنفاً من نفي الزمان إنما يصح في مسألة الإلهام كإلهام الله عبده ورسوله يوسف عليه صلوات الله وسلامه وبركاته أنه سيسجد له الشمس والقمر؛ وهما أبواه، وسيسجد له إخوته؛ وهم أحد عشر أخاً، وجاء بهم من البدو؛ فهذا علم لدني لم يعلمه اكتساباً؛ لهذا انتفى الزمان؛ ومن المعلوم أن الإلهام خاص بمن ألهمه الله العلم؛ وأهل عصره ومن بعدهم من أجيال سيعلمون أنه منحة له لدنية من ربه، ويؤمنون بصلاحه؛ وبهذا تعلمون: أن نظرية المعرفة من أهم مباحث الفلسفة لعمقها وخصبها وكثرة تعقيدها؛ ولا يستقيم منطق أي أمة حتى تحدد منهجها في تحصيل المعرفة، ولا أبخس الفكر البشري حقه فيما أغنى به هذا الجانب من دقة وشمول؛ ولكن مع هذا لم يتحدد المنهج الذي يسلم به جمهرة أرباب الفكر، ثم ازدادت النظرية تعقيداً؛ وفي يقيني أن هذا يعود إلى أمرين: أحدهما أن أرباب الفلسفة والفكر خلفوا خصومةً عنيفةً بين مصادر المعرفة من حس، وعقل، ودين؛ غير مراعين الوحدة والانسجام الطبيعي بين هذالمصادر، وأنه لكل مصدر موضوعه الخاص به، وأن صدق هذا المصدر يكون في موضوعاته الخاصة به.. وثانيهما أن أرباب الفلسفة لم يحسنوا القسمة بين هذه المصادر؛ فقالوا: هذه معرفة عقلية، وهذه معرفة حسية، وهذه معرفة دينية، وهذه معرفة روحية.. إلخ.. والقسمة الطبيعية: أن المعرفة قسمان لا ثالث لهما: معرفة معقولة، ومعرفة غير معقولة؛ فالمعرفة المعقولة هي التي تصح إما بواسطة الفطرة كالمبادىء الفطرية، وإما بواسطة الحس، وإما بواسطة ما ينبثق منهما كالتجربة، وكنصوص الدين؛ فإن إيماننا بوجود الله وبكماله؛ (ومنه صدقه سبحانه وتعالى)، ثم الإيمان بصحة الرسالة: يحتم علينا أن ما صح ثبوته وصحت دلالته بواسطة رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه وبركاته: يكون حقيقة.. أعني أنه يكون مصدراً للمعرفة؛ وهذه اللمحة تذكير مني بما ألمحت إليه في بحث لي نشرته مطولاً في جريدة البلاد عدد 3690 في 10/2/1390 هـ.. وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى، والله المستعان.