د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في رحلة ابن بطوطة الكثير من العجائب التي يطرب لها الإنسان لحسنها وطرافتها، وإضافة إلى ذلك أنها توثيق تاريخي كبير، لم يقتصر على الحروب والنزاعات وأخبار الملوك والسلاطين، وإنما يتجاوز ذلك إلى نقل بعض أشكال الحياة الاجتماعية للشعوب، وعلاقتهم بالحكام، والقضاة، وكذلك معتقداتهم، ومذاهبهم، وبعض عاداتهم.
إن رحلته الطويلة لم تقتصر على منطقة بعينها، وإنما امتدت من طنجة إلى الصين مروراً بعدد غير قليل من البلدان، التي عانى عند مقامه في بعضها الشيء الكثير من المخاطر، ونال من بعضها الآخر الكثير من الطمأنينة والتقدير، والأجمل أنه - بعون من الله - رجع سالماً غانماً ليذكر ما رآه، ويسطره غيره، ليضيف لتاريخ الكثير من الشعوب والبلدان كماً هائلاً من المعلومات الأكثر قرباً من الصواب.
ومن محطاته الكثيرة، كانت مقديشو عاصمة الصومال الآن، وهي كما نرى ونسمع تئن تحت وطأة عدم الاستقرار، لانتشار بعض الإرهابيين هنا وهناك، والذين ليس لهم هم إلاّ قتل الأبرياء، وتخريب الديار، واستمرار عدم الاستقرار، وهذا الداء العضال لم يقتصر على مقديشو بل انتشر كالوباء في سائر أنحاء المعمورة من أدناها إلى أقصاها.
ومقديشو مركز أسس في القرن الرابع الهجري، أي العاشر الميلادي، على أيدي عدد من المهاجرين العرب، وربما كانوا مسلمين من قبائل بعضهم من الأحساء.
ويقول ابن بطوطة عن مقديشو إنها مدينة متناهية في الكبر، وأهلها لهم جمال كثيرة، ينحرون منها المائتين كل يوم، ولهم أغنام كثيرة، وأهلها تجار أقوياء، وربما تصنع الثياب المنسوبة إليها التي لا نظير لها، ومنها تحمل إلى ديار مصر وغيرها.
هذا ما قاله ابن بطوطة في وصف مقديشو وأهلها، والحقيقة أن تجارة القطن هناك كانت مزدهرة، وقد كان القطن يشحن منها إلى مصر والجزيرة العربية والخليج، غير أن هذه التجارة أخذت في الانهيار بعد تحطيم البرتغاليين لمستودعات العرب هناك وهم في طريقهم للاستيلاء على القرن الإفريقي وجزء من الخليج العربي، في فترة توسعة من خلال أسطولهم البحري، الذي تم تقويته، بعد سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس، والاستفادة من البحارة المسلمين، والخرائط والمعلومات الهائلة التي أوجدها علماؤهم وتراكمت عبر السنين المتعاقبة، ليقطفها الإسبان والبرتغال، في سبيل توسيع ممالكهم على حساب المسلمين.
ويقول ابن بطوطة إن من عادة أهل تلك البلاد أنه عند وصول مركب إلى المرسى تصعد المراكب الصغيرة إليه، ويكون في كل مركب جماعة من شبان أهلها، فيأتي كل واحد منهم بطبق مغطى به طعام، فيقدمه لتاجر من تجار المركب، ويقول: هذا نزيلي. وكذلك يفعل كل واحد منهم، ولا يعملون ذلك مع من كان كثير التردد إلى تلك البلاد، وحصلت له معرفة أهلهم فإنه ينزل حيث شاء، فإذا نزل عند نزيله باع له ما عنده، واشترى له، ومن اشترى منه بثمن بخس، أو باع منه بغير حضور نزيله، فذلك البيع مردود عندهم، ولهم منفعة في ذلك.
ويقول لنا ابن بطوطة إن أحد الشباب صار إليه، فقال له بعض أصحاب ابن بطوطة، إن هذا ليس بتاجر، وإنما هو فقيه، فصاح بأصحابه: إن هذا نزيل القاضي. وكان فيهم أحد أصحاب القاضي، فعرفه بذلك، فجاء إلى ساحل البحر في جملة الطلبة، وبعث إلى أحدهم، فنزلت أنا وأصحابي، وسلمت على القاضي وأصحابه، وقال لي: بسم الله نتوجه إلى الشيخ، فقلت: وما الشيخ، فقال لي السلطان، ومن عادتهم أن يسمون السلطان الشيخ، فقلت له إذا نزلت توجهت إليه، فقال لي: إن من عادتهم إذا جاء الفقيه أو الشريف أو الرجل الصالح، لا ينزل حتى يرى السلطان، فذهبت معهم إليه كما طلبوا، فجاء أحد الفتيان إلى القاضي، وقال له القاضي: بلغ الأمانة أن هذا الرجل وصل من أرض الحجاز، فعاد الفتى، ومعده أوراق التبنول، فأعطاني عشر أوراق مع قليل من الفوفل، وأعطى للقاضي والطلبة ولأصحابي ما بقي من الطبق، وجاء بإناء به ماء الورد الدمشقي، وسكبه عليَّ وعلى القاضي والطلبة وأصحابي، وقال للقاضي إن الشيخ قد أمر أن ينزل بمساكن الطلبة. وهو مكان ضيافة معد إعداداً جيداً ونظيفاً، وقدم أحد وزرائه المكلف بالضيافة، وقال: قدمتم خير مقدم، ثم وضع الطعام، فأكلنا وطعامهم الأرز المطبوخ بالسمن، يجعلونه في صحفة خشب كبيرة، ويجعلون فوقه صحاف الكوشي، وهو الإدام من الدجاج واللحم والحوت والبقول.
يبدو أن هذا الطبق، هو طبق الكوشري، أو أنه الكبسة وعليها خليط من اللحوم والحوت، وشيء من الخضار، وهكذا نختم المقال بهذه الأكلة الدسمة الطيبة، لعل مقالانا يكون فيه قليل من الدسم للقارئ الكريم.