عبدالعزيز السماري
يعتبر المثل الشعبي أحد وجوه الحكمة في المجتمعات الشفوية، وقد كان في الماضي بمثابة اللزمة التي تُقال في مواقف محددة، وتكون مؤثرة جداً إذا تطابق الموقف الاجتماعي مع لحظة الاستدلال بها، وتكمن قوة تأثير النص الشعبي في استمرار استعمالاته عبر الأزمان المتباعدة.
من أكثر الأمثلة الشعبية التي لفتت نظري، ولا زال تتردد أصداءه في الثقافة الشفوية هو المقولة الأشهر «من ضيع المرجلة زبن الدين»، وهي مقولة لا يجب أن تُقرأ من خلال الفهم الذكوري فقط، فالمرجلة لا تعني الذكورة، ولكنها كلمة قديمة في اللسان العربي، وقيل في لسان العرب الرجل عن الذكر، الرجله عن الأنثى.
كانت صفات المراجل عند العرب لا تختص بالرجل، فكان من النساء أيضاً زعيمات وتجار وفاعلات بقوة في مجتمعاتهن، وكن يشاركن في الحروب والغزوات، ويقومن بأدوار قيادية في العزيمة والإصرار على النجاح، وكان بعضهن يختار زوجه من الذكور..
كان الامتثال بسمات المرجلة السامية تحدد مكانة الإنسان في المجتمع سواء كان رجلاً أو امرأة في مجتمعه، من سمات المرجلة الحكمة والشجاعة والاقدام والسمعة الطيبة، ومنها أيضاً العفة والوفاء والكرم تجنب الطرق الرديئة في الكسب والتواصل مع الآخرين.
في عصور متأخرة عن مرحلة النبوة، تم استدعاء بعض النصوص التي تحط من قدر المرأة، وتلعن التي تتشبه بصفات المرجلة مثل المشاركة في الرأي والمعرفة والعزيمة والإقدام والقيادة، فكانت نهاية مرحلة المرجلة التي لا تعني الذكورة فقط، ولتبدأ مرحلة احتكار الذكر بصفات الرجولة أو المرجلة ..
وبالتالي اختفت اسم الرجلة من صفات الأنثى، وحضرت في الأنوثه أسماء مثل الحرمة ومصدره الحرام، وتم استبدال الرجلة بالمرأة.
في عصرنا الحاضر برزت ظاهرة استخدام الدين إذا غاب النجاح، وإذا اختفت صفات النبل الإنسانية أو المرجلة، فتجد بعضهم «يزبن» الدين ليهاجم الآخرين الذين لا يستطيعون مواجهتهم بالرأي أو بالأخلاق النبيلة.
ولازالت صفحات الماضي الأخيرة تحكي سيرة بعض الذكور والنساء الذين كانوا في أقصى درجات الانحراف، وأقلها مرجلة، وأدناها في درجات العلم والنجاح في العمل، فكان مخرجهم أن لبسوا عباءة الدين، وبدأوا مرحلة الانتقام ومطاردة الناجحين من حواليهم.
تلك أحد أزمات الفهم الديني في هذا العصر، فبعض الفاشلين في حياتهم أو لنقل الخاسرين يلجأون إلى الدين لاستخدامه كأداة سلطة متحررة من القيود، وبالتالي يمنح نفسه الشرعية ليؤذي الآخرين ويشوه سمعتهم أو يقتلهم، ثم يخرج منها، وهو يحمد الله على فعلته البشعة وغير الدينية..
لدينا عشرات الأمثلة ومن مختلف الفئات من أولئك الذين استخدموا الدين ليس فقط في التسلط، ولكن أيضاً في الاقتصاد والطب والإعلام، وتحولوا إلى إمبراطوريات مالية ضخمة، بسبب لجوءهم غير المبرر إلى استغلال الدين في صورة غير نبيلة أو سوية، وسيصعب سرد الأمثلة، فالقائمة ستطول كثيراً، لو بدأت في سردها..
العبرة أن نحذر من أولئك الذين يزبنون الدين إذا أضاعوا فرص الحياة، أو فشلوا في تحقيق النجاح من خلال مهاراتهم الذاتية، ثم لم يجدوا غير وسيلة استخدام الدين الحنيف في غير محله، وهو مهاجمة النجاح أو صور التطور و التفاؤل في المجتمع، لا لسبب إلا لأنهم أضاعوا مراجلهم وسمات النبل والأخلاق الرفيعة في مراحل مضت.