د. فوزية البكر
خلال الأسبوع الذي سبق إجازة منتصف الفصل الدراسي لم استطع وفي أحيان كثيرة تمالك نفسي من الغضب والإحباط والتساؤل حول ما وصل إليه أبناؤنا في المدارس وأهاليهم من تهرب وتغيب مقصود لم تملك المدارس ووزارة التعليم أمام قوة فيضانه سوى التسليم وهذا بالطبع يشملنا كأهالي.
كيف حدث أن تغلبت علينا (كعائلات ومؤسسات) إرادة أبنائنا الطلاب والطالبات ببدء الإجازة أيام قبل أن تبدأ؟ كيف تجذرت هذه الثقافة المريضة التي تري بأن من يحضر (ابله) و(غلبان) في حين أن الأفضل هو من يتغيب وينام؟ وكيف لم تملك أجهزة التعليم بدءاً من أول ابتدائي وانتهاءً ببرامج الدراسات العليا في الجامعات طرقًا حكيمة لتغيير هذه الثقافة المريضة التي تجذرت خلال عقود الطفرة النفطية؟
في مقالة جميلة للدكتور مصطفى العقاد يقول فيها: إن متابعة الأبناء والاهتمام بإطعامهم وظهورهم بالمظهر الحسن والتأكَّد من حلهم للواجبات وأداء الامتحانات كلها أمور تقع فيما يمكن أن نسميه رعاية الأبناء وليس تربيتهم فما هي التربية إذن؟
التربية هي العمل على خمسة أمور:
أولها: بناء القناعات: وتشمل العقيدة والمبادئ الإنسانية والقيم الخالدة وبناء الطموحات وفهم الحياة.
ثانيها: توجيه الاهتمامات: وتشمل ما يشغل بال الإنسان وكيف يقضي وقت فراغه.
ثالثها: تنمية المهارات: بأنواعها: رياضية وفنية وعلمية واجتماعية وإدارية
ورابعها: فهم قواعد العلاقات: من تصاحب ومن تتجنب وكيفية بناء العلاقات وإصلاحها أو إنهائها.
وخامسها هو: اختيار القدوات وهم المثل العليا الذين يتطلع إليهم الإنسان ليصبح مثلهم وكذلك فهم القوانين التي تحكم التعامل مع القدوات.
هذه المبادئ الخمسة تسمى تربية أما الباقي مما يشغل يومنا من إيقاظ للمدرسة صباحًا ثم العودة للغداء ثم المذاكرة ولا شيء بينها يقع ضمن الشروط الخمس للتربية كما حددها العقاد فهو ما أوقع أبناءنا في مطب النماذج (الهابطة فنيًا ورياضيًا) كما أن خواء المدرسة إلا من التلقين جعلها المكان الأبغض لطلابها ينتظرون لحظة المغادرة. المدرسة لأبنائنا ليست مكانًا مثيرًا للتعلم كما تكاد تخلو إلا من حصة رياضة يتيمة أسبوعيًا وللذكور فقط بالرغم من أن كل إنسان يحتاج ما لا يقل عن أربعين دقيقة يوميًا ليظل محتفظًا بإتزانه العام وليس ليكتسب مهارات رياضية محددة.
لا مجال ضمن نظامنا التعليمي لتحفيز الأمثلة الإنسانية أو تبني أهداف عامة تفيد المجتمع المحلي والعالمي مثل الحفاظ على التوازن البيئي بترشيد استهلاك الطاقة والمياه وتقليل الفاقد من الأطعمة ومغلفاتها البلاستيكية ومساعدة المهجرين والنازحين ومصابي الحروب الخ من الأهداف النبيلة التي يعج بها عالمنا لكن نظامنا التعليمي المقيد سياسيًا وثقافيًا وبيروقراطيًا عاجز عن التحرك في أي اتجاه مما أضاع أبناءنا وأضاع التعليم معهم.
ماذا يفعل أبناؤنا بسحابة يومهم في معظم الوقت؟ ألعاب إلكترونية؟ هل هذا سيئ؟ ليس تمامًا فقليل من الألعاب الإلكترونية يحفز الدماغ ويحسن القدرة على تحليل المشكلات والمشاركة مع آخرين في الحلول الخ.. من المفاهيم التي تعج بها هذه لألعاب لكن الكثير منها وكما يحدث مع أبنائنا خطر جدًا ومن ثم لا غرابة أن تجد صغيرًا مراهقًا يتعامل مع السيارة تعامله مع سيارته الإلكترونية داخل اللعبة ليقفز يمينًا ويسارًا هربًا وقتلاً لرجال الشرطة كما يحدث في معظم الألعاب ولا غرابة أن يشعر المراهق بالوحشة الكبيرة مع الكبار حين يكون في مناسبة أو زواج لأنه لم يعتد على التفاعل معهم فيغرس قلقه في جواله الذي لا يفارقه بحيث يغرق في مزيد من الألعاب ومزيد من الاغتراب الشخصي واللغوي والثقافي؟
المدرسة كما تمارس في مجتمعنا السعودي هي صورة محسنة من كتاتيب يجتمع طلابها في الفصل بدل ظل الشجرة أو بيت المعلم ويصدرون الشهادات بعد مرور بعض الوقت لكنها لا تربي اهتمامات فنية أو عالمية ولا تخلق أجواء رياضية وفنية ومسرحية تنافسية تشغل وقت الطلاب والطالبات وتمنحهم فرصة للتعرف على ثقافات أخرى تربطهم بالعالم وبالبيئة من حولهم وتولد النماذج الرفيعة التي يمكن أن يتعلقون بها.
ماذا عن دورنا كأهالي؟ نقع في نفس خانة المدرسة ووزارة التعليم. نطعم ونكسي ونداوي عند المرض الجسدي ونلاحق الواجبات والاختبارات لكننا فعليًا لا نعرف أبناءنا ولا نسهر على تربيتهم بدرجة تجعلهم جزءًا أساسيًا من برنامجنا اليومي، وكيف يحدث ذلك والسائق من يوصلهم للمدرسة ويعيدهم والعاملة المنزلية هي من يطعمهم ويتحدث معهم ويغسل ويكوي ملابسهم ويصلح أسرتهم ويلبسهم جواربهم وبالطبع هي من يتحدث معهم.. هذا على فرضية أن هؤلاء العمال صالحون وطيبون ويؤدون عملهم بصورة صادقة! كما أننا لعقود حرمنا أن نكون معًا كأسرة بسبب الموانع الثقافية والاجتماعية فنشأ الابن غريبًا وبعيدًا وأسرعت الفتاة للزواج متى أقبل الرجل: أي رجل يقبله المحيط لتهرب من اغتراب (المحيط) ولتقع في مأساة العلاقة مع رجل مغترب لا يعرف نفسه ولا يعرفها.
يجب أن نستيقظ.