د. جاسر الحربش
حاجة المواطن السعودي إلى تأهيل فكري أمر مفروغ منه. الذي يقبل تحريم شيء اليوم ثم يقبل تحليله غداً من نفس المصادر يحتاج إلى أعادة تأهيل فكري. الذي يغادر الحديقة العامة مع عائلته مخلفين أكوام نفاياتهم ثم يتذمر من نفايات المقيمين في الحدائق يحتاج إلى إعادة تأهيل فكري. المصلون الذين يبعثرون أحذيتهم على أبواب المساجد ويسدون الطريق العام بسياراتهم يحتاجون إلى إعادة تأهيل فكري. الحاجة إلى إعادة التأهيل الفكري لا تتطلب أكثر من حث وترك الناس يستعملون عقولهم قبل أن يتجرؤوا على انتقاد الآخرين.
رغم الحاجة الماسة إلى التأهيل الفكري، لكنه ليس ما أتحدث عنه في هذا المقال وإنما أناقش كطبيب حاجتنا إلى التأهيل البدني. نعمة الشبع التي غمرتنا طيلة خمسين سنة أورثت فينا الرخاوة البدنية والاستغناء عن استعمال المهارات الجسدية وهذا يعني أننا نحتاج إلى إعادة تأهيل بدني، وهو أسهل كثيراً من إعادة التأهيل الفكري وقد يكون إحدى الطرق إليه.
مثالان معبران بقيا في ذاكرتي عبر الزمن الطويل على مشاكل الهزال البدني ونتائجه. ذات مرة كنا في رحلة برية، مجموعة من الأطباء والإداريين العاملين في مستشفى الملك عبدالعزيز أيام كان يسمى مستشفى طلال قبل أكثر من أربعين سنة. كان معنا زميل باكستاني، طبيب عام متواضع البنية كثير الصمت حسن الخلق اسمه الدكتور سعيد. أحد الإداريين السعوديين معنا كان عكسه تماماً، ضخم الطول والعرض كثير الكلام والاستهزاء، وفي تلك الأمسية تسلط على زميلنا الباكستاني ولم نفلح في إسكاته. عندما طفح الكيل بالدكتور سعيد طلب من أخينا السعودي الضخم أن يقف أمامه وقال له اضربني بكل قوتك على صدري، فضربه ولم يتزحزح سعيد سوى خطوتين إلى الوراء ولم يقع على الأرض. طلب سعيد من زميلنا الضخم الاستعداد لتلقي ضربته فانتصب هذا أمامه ضاحكاً مستهزءاً، ولكن عندما خبطه الدكتور سعيد براحة يديه اليمنى على صدره ارتد عدة خطوات إلى الخلف ثم سقط على ظهره، فركب سيارته وغادر المكان. عرفنا فيما بعد أن الدكتور سعيد خدم في الجيش الباكستاني وتدرب على استعمال المهارات الدفاعية الجسدية.
المرة الثانية عندما وقفت لتعبئة البنزين في محطة بين الدمام والرياض فشاهدت شجاراً بين آسيوي ضئيل الحجم مع سعودي أضخم منه عدة مرات. الآسيوي كان يتراقص ويناول خصمه اللكمات من بعيد، لأنه يعرف لو أمسك به السعودي لفرم عظامه. مواطننا السعودي ثارت أنفاسه واحمرت أوداجه وكاد يختنق بسبب ضعف لياقته البدنية. بالطبع فصلنا بين الاثنين وطلبنا من الآسيوي مغادرة المكان. مرة أخرى كانت العبرة في التأهيل الجسدي النوعي وليست في كميات اللحم والعظم.
أقول بصراحة قد تحنق الكثيرين: نحن قوم بدناء سريعو الانفعال قصيرو النفس ضعاف العضلات، لأننا لم نتمرن على استعمال الجسد كآلة دفاعية ذات فعالية تفوق التصور. قد يعتقد البعض أن ضبط الانفعال قبل استعمال القوة عند الضرورة يتناسب عكسياً مع ضعف الكفاءة البدنية، لكن هذا غير صحيح. الثقة بالنفس وضبط الانفعال تزداد تصاعدياً مع الثقة في الكفاءة البدنية.