خالد محمد الدوس
في عقد التسعينيات الهجرية فقدُت والدتي (نورة بنت عبدالرحمن الموينع) بعد معاناتها مع مرض السرطان فغادرت -رحمها الله- هذه الحياة الفانية في شبابها، وعمري لم يتجاوز ستة أشهر وشقيقتي نوف عمرها سنتان ونصف السنة فتركت خلفها ثمانية أبناء..!! فمررت بمعاناة صحية متردية بعد فقد والدتي ونقلت لأحد الأطباء، وبعد تشخيص حالتي الصحية برفقة عمتي (موضي الدرح) -رحمها الله- قال الطبيب إن حالة هذا الرضيع صعبة وقد يموت لسوء التغذية وفقد أمه..! فقرر الوالد -أطال الله عمره- بعد رحيل أمّي التي تركت أطفالها الثمانية بين أسوار هذه الدنيا، أن يتزوج من امرأة تربي أطفاله المجروحين الذين فقدوا والدتهم في بواكير طفولتهم، وبفضل الله وفّق والدي في زوجة صالحة، وامرأة تقية وهي أمي التي لم تلدني وربتني وأحسنت تربيتي في طفولتي (سارة بنت عبد الرحمن الغريبي) التي وفاها الأجل-رحمها الله- فجر يوم الخميس الموافق 24-6-1438هـ بعد معاناتها المرضية مع السرطان لتنتقل إلى جوار ربها بقلوب مفعمة بالحمد والإيمان بقضائه وقدره وسنته في خلقه.
فمنذ أن تفتحت عيناي في هذه الدنيا لم أبصر إلا بحسن رعايتها وتربيتها لي كما لو كنت ابنها، وبالرغم من أن لديها عدداً من الأبناء والبنات من زوجها السابق، إلا إنني لم أشعر بأي فرق في حسن الرعاية والعناية من فقيدتنا الغالية.. فقد كانت -يرحمها الله- نموذجاً لزوجة الأب الصالحة في الوقت الذي كانت وما زالت الصورة الذهنية عند كبار السن والآباء منذ قديم الزمان أن (مرة الأب) المرأة الشريرة والقاسية ولا تحب أبناء الأب ولا تهتم بهم..!! غير أنا أمي التي لم تلدني (سارة) كانت امرأة صالحة تولت تربيتي مع شقيقتي التي كانت تكبرني بسنتين ونصف وأحسنت التربية ولم تكن تعاملنا إلا بمثابة أبنائها؛ فقد احتسبت هذا العمل لوجه الله وهي تربي طفلاً رضيعاً وطفلة في عامها الثاني والنصف أشبه بالأيتام، حيث شكلت هذه المرحلة لنا ملاذاً عاطفياً ووجدانيا ونفسياً وتربوياً، فكانت -يرحمها الله- رمزاً للعاطفة والحب والحنان والإحسان والقيم الإيمانية الفضيلة.
عاشت أمي الحنونة (سارة) بقلبها الكبير الذي احتوي همومي ومعاناتي وأهاتي في طفولتي.. في بداية حياتها (يتيمة) بعد وفاة والدها الشيخ (عبدالرحمن الغريبي) وهي في عامها الخامس غير أن والدتها الراحلة (دلّيل) -رحمها الله- ربتها التربية الدينية الحميدة وأحسنت في تنشئتها التنشئة الإيمانية السليمة التي انعكست على قيمها الإيمانية الأصيلة ومنهج حياتها التربوي والديني القويم.. فكانت مدرسة من الطيبة والحنان والعواطف والإحسان والصبر والحلم وحب الخير والسخاء والقلب الكبير الذي احتوى الجميع من النقاء والصفاء، فكنت ذا حظ عظيم بعد أن سّخر الله العلي القدير لي زوجة أب صالحة.. صادقة.. محتسبة لتتولى تربيتي وتنشئتي التنشئة الأخلاقية والقيمية والدينية والاجتماعية والعاطفية السليمة فلم أشعر بفقد أمي نورة -رحمها الله- باحتوائي ورعايتي حق رعاية، لإيمانها التام أن الإحسان إلى من فقد أحد والديه في صباه من أجلّ الأعمال، وقد أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من الحث على الإحسان في نصوص عدة، بل كانت نعم المرأة الصالحة في البذل والإنفاق والحرص على الصدقة في الخفاء والتواصل مع الجيران.. تحب الجميع صغاراً وكباراً تشارك الأمهات همومهن وأحزانهن وتتفقد أحوال المحتاجين منهن فكانت -رحمها الله- الأم الحنون لأفراد العائلة.
نعم كانت أمي التي لم تلدني (سارة) امرأة كريمة.. سخية.. متواضعة أحبها كل من عرفها عن قرب، سواء داخل نسيجنا العائلي أو خارج محيطنا القرابي غير أن رحيلها ترك في القلب لوعة، وفي النفس حسرة، وفي نبرات الصوت غصة.. ولا نقول إلا إنا لفراقك يا (أم سلطان).. أم الحنان والإحسان لمحزونون.. وعزاؤنا في هذا الفراق العظيم أن فقيدتنا الغالية كانت امرأة صالحة صبرت على مرضها طويلاً ومع شدة السقم والمرض والابتلاء كانت مدرسة من الصبر والاحتساب والإيمان لقضاء الله وقدره؛ لم تفارقها الابتسامة والبشاشة عندما يزورها الأبناء والأقارب وكل من أحب هذه المرأة الصالحة.. ولأن الإيمان.. وكما يقول الإمام (ابن القيم) -رحمه الله- نصفان.. نصف شكر ونصف صبر، فقد كانت الراحلة كثيرة الشكر والحمد في كل حال.. ومتمسكة بحبل الصبر المتين بالذات مع بداية دخول المرض العضال جسدها الطاهر قبل ما يزيد عن خمسة أعوام.. وبعد أن تمكن المرض منها ونقلها للجناح الشرقي بمستشفى التخصصي للأورام ودخولها للغيبوبة في أيامها الأخيرة.. كانت ومن نعمة الله وفضله عندما تفيق للحظات تذكر فيها الله وتستغفر وتكثر من الحمد، وقلبها الكبير التقي كان معلقاً بالصلاة.
أسال العلي القدير أن يجعل ما أصابها تكفيراً للخطايا، وتمحيصاً للذنوب، ورفعه لدرجاتها.. اللهم إن أمي (سارة) في جوارك فأكرمها بكرمك وارحمها برحمتك.. فأنت الكريم الرحمن.. المنان.. الرحيم.. وأخيراً نقول: إن العين تدمع والقلب يحزن على فراقك.. يا أم الحنان والإحسان (أم سلطان).. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا الحليم.. {ِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.