د.ثريا العريض
الأيام تمر سريعًا والفصول تتكرر في دورة معروفة وها نحن عبرنا الشتاء إلى الربيع وننتظر الصيف عن قريب.
اكتشف الإنسان الفطري مبكرًا حاجته لتذكّر تفاصيل المواسم، ومعالم بدايات ونهايات الفصول الأربعة لارتباطها بأسلوب حياته وتأمين متطلبات العيش والبقاء، بين القر والحر والثلج والأمطار والربيع والإخصاب والخريف والثمار فالبشر لا يستطيعون الدخول في سبات حتى ينتهي الشتاء. وباعتماد الزراعة كأسلوب حياة كان لا بد من تنظيم فعاليات متطلباتها وفروق المحاصيل المنتقاة. دخل الإنسان بالزراعة مرحلة التحضر والاستعداد المسبق والتخطيط وموازنة التحكم في فرضيات الطقس وتفاصيل الحياة اليومية لتأتي المواسم متسقة مع رغباته واحتياجاته الخاصة. أما في عصر الصناعة الذي وصله الإنسان مع اكتشاف النار ثم طاقة الوقود، فقد بلغ مرحلة التحكم شبه الكامل فصار لديه قدرة استخدام موارد الطبيعة القديمة والمتجددة لتوليد الطاقة، وتكييف الجو، وتسريع الحركة، حتى وصل إلى القمر ودجن الأرض والفضاء.
ما لم يستطع الإنسان تدجينه تمامًا أو التحكم فيه ظل ضعفه أمام غرائزه ورغبته في حيازة ما يعجبه دون تقنين، حتى حين تكون ممتلكًا لغيره. ولكن الإنسان يعي أيضًا حاجته للبقاء عضوًا في مجموع بشري يمنحه الحماية المرتبطة بالانتماء الخاص ويؤمن له الأمن والدفاع ضد الأعداء الغزاة. من هنا اخترع العقلاء سنن القانون لكيلا تطغي القوة المجردة على دواعي التعايش فتنتهي البشرية بالاندثار. ولكن ميل بعض البشر إلى العنف لم يختف تمامًا رغم التحضر المؤسساتي، وظل يسير أفعالهم الفردية كما تملي ميولهم الأعمق للشر والاعتداء والإيذاء متى ما سمحت الظروف وسنحت الفرص. بل قد يتجمع من لديهم نزعة العنف والشر في تنظيمات إرهابية تقنن العنف والاعتداء تحت مبررات شكلية وطقوس قاتلة.
وها هو الإنسان الذي في العقدين الأخيرين دخل مرحلة التواصل الفوري عن بعد، وانفتح أمامه التواصل الكوني عبر التقنية الرقمية، يكتشف أن غزو الآخرين وإضعافهم وهزيمتهم لا يتطلب القرب وعناء الاشتباك الجسدي، بل مجرد إرسال فيروسات فعلية أو تقنية تنتهك مناعتهم وتهدم مؤسساتهم.. وقد تكون مجرد أخبار مختلقة ومفبركة تزرع الرعب في القلوب فتسرع سقوط الدفاعات والاستسلام. وقد تكون صواريخ بالستية أو عابرة للقارات كارثية النتائج لو وقع قرار استخدامها في يد من لا يؤمن بحق البقاء للجميع. وليس ذلك خارج الاحتمالات إِذ لم تمر إلا بضعة عقود على القنبلة النووية التي محت الحياة عن المدن اليابانية هيروشيما وناجازاكي.
وبهذا أصبح الإنسان عدو الإنسان خارج فرضيات الزمان وإملاءات المواسم. هنا أصبحت الاتفاقيات الرسمية لمنع تصعيد استخدام التقنيات الجديدة ضرورة مصيرية لبقاء الجميع، والتحالف ضد المخالف للقانون الإنساني أهم من التعنصر لفئة دون فئة تحت راية انتماء خاص يقصي الآخرين ويحلل إيذاءهم بكل المواسم، وعبر أبعد المسافات.