سعد بن عبدالقادر القويعي
لمعالي الشيخ الأستاذ الدكتور سليمان أبا الخيل
هناك من يمتلك قدرة إبداعية، وسعة أفق ملفتة للنظر في الحوار، والطرح، والنقاش؛ فتمتد المساحة أمامه لسبر أغوار الحقيقة، وبلوغ سقف الاطلاع، والرحابة في التفكير، والتعبير وفق كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالفهم الصحيح.
وأحسب أن - معالي الشيخ الأستاذ الدكتور - سليمان بن عبدالله أبا الخيل مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعضو هيئة كبار العلماء، ورئيس المجلس التنفيذي لاتحاد جامعات العالم الإسلامي، ممن تجرد للحق الذي هو طريق إلى سعة الأفق، وبعد النظر، وملازمة أصحاب منهج الاستدلال بالنص الصحيح، والذي يعتبر سمة من سمات التصرف الواسع، والرؤية البعيدة في فهم الحقائق فهما سليما، وهذا ما ألمسه من أطروحات معاليه، ومن ذلك على سبيل المثال: كتابه الموسوم بـ « السلفية حقيقتها وأصولها وموقفها من التكفير.. دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب أنموذجاً «، الأمر الذي يتطلب إلى ضرورة تأسيس عمق منهجية التفكير، كونه أمرا مطلوبا، إذ لا عصمة لأحد، بل هو الاجتهاد بما يحمل من إصابة، أو خطأ.
منهج الدعوة السلفية
المقاصد الشرعيّة، هي: قواعد كلية مستخرجة من استقراء كافة النصوص، والأحكام الجزئية. وكما أنها تقوم على ضرورة اعتبار الكليات، فإنها تقوم أيضاً على ضرورة اعتبار الجزئيات، بحيث تتضمّن منهجاً واضح المعالم، يرسم للعالم المجتهد أسس الاستنباط، وذلك ضمن المقاصد الكبرى للشريعة، المبنيّة على الجزئيات، مع مراعاتهما معاً، وأن يكون الاجتهاد مبنياً عليهما - أيضاً -، أقصد: القواعد، والكليات مع الأدلة الجزئية.
إنّ الوقوف على المدارك الشرعية، وتفهُّم الحكم التشريعية؛ نظراً لاختلاف القواعد من حيث أصولها من جهة، ومن حيث وجود الدليل على حكم المسألة المبحوث عنها، أو عدم وجوده من جهة أخرى، مطلب مهم. - وبالتالي - فإنّ أحكام الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تغيب؛ بسبب مخالفتها لمقاصد النفوس، أو بما يتوافق مع شهواتها؛ حتى وإن تستّرت خلف دعوى حفظ مقاصد الشريعة، فكثيراً ما يندفع بعض المجتهدين إلى تحقيق مصلحة شرعية في اجتهادهم، غافلين في المقابل عن المفاسد المترتبة على ذلك؛ ما يجعلهم في نهاية المطاف نادمين على ما أقدموا عليه؛ بسبب قراءاتهم الخاطئة لتلك الاجتهادات.
يمكنني بعد هذا التوضيح، مناقشة هذه النتيجة، ما دام أنّ هذه التطبيقات على أرض الواقع، لا تخرج عن كونها اجتهادات بشرية قاصرة، وهو ما يجعلنا بحاجة ماسّة إلى ضرورة التأصيل الشرعي لكثير من قضايا الدعوة في الاستدلال، والتقعيد، والتنظير، وربطها برباط شرعي متين منضبط؛ حتى يكون لطلاب العلم، والدعاة مرجعية علمية موثوق بها؛ ولتكون اجتهاداتهم على مقتضى ما يرضاه الشارع الحكيم، وذلك من خلال الموازنة بين المصالح، والمفاسد، والتركيز على مآلات الأمور، دون الاكتفاء بالنظرة الآنية القاصرة.
إنّ قراءتنا للواقع - اليوم -، تستدعي العمل على ترشيد العمل الإسلامي، وربطه بقواعد الأولويات الفقهية، - لاسيما - وأنّ المتبصِّر بمتطلَّبات المرحلة الدعوية، وما يكتنفه من قصور واضح في التكوين الشرعي، أدى - مع الأسف - إلى انفصال الحكم عن محله، وغياب البُعد الزماني، والمكاني في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع. ومثل هذا التوجيه، سيكون له أثره المحمود على النظر الاجتهادي في النوازل، والمستجدات التي تعنّ للناس من حين لآخر، - إضافة - إلى قدرتها على التكيُّف مع المستجدات التي لها صلة بالفعل الاجتهادي، والحضاري للأمة المسلمة، فدين الله يسع الجميع، فهو قائم على العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله على بصيرة. ثم إن قيماً أخلاقية يجب احترامها، والعمل بها، كتقبل الاختلاف، واحترام التنوع، وقبول الآخر، ورفع لغة الحوار، بعيدًا عن لغة الصراع.
إن المجددين في حياة الأمة كالعلامات المضيئة التي تنير الطريق للسائرين، وأحسب أن الشيخ - رحمه الله - حقّق الله له الآمال الطيبة، ونشر به الدعوة، وأيّد به الحق، وهيّأ الله له أنصارا، ومساعدين، وأعوانا؛ حتى ظهر دين الله، وانتشر الحق، وكبت الباطل، وانقمع، وصار الناس في سيرة حسنة، ومنهج قويم في سائر أحوالهم، فالأساس الذي بنيت عليه دعوة - الشيخ - محمد بن عبد الوهاب، هي فكرة التوحيد في العقيدة، المجردة من كل شرك، - إضافة - إلى فكرة التوحيد في التشريع، فلا مصدر لها إلا الكتاب، والسنة، وذلك في ظل دولة قادرة على تحقيق الأهداف، ويعني ذلك الاهتمام بالمجتمع المسلم من النواحي التعليمية، والتنظيمية؛ ليكتمل توحيد الدين، وتوحيد الكيان، وبسط الأمن، والسير على نهج السلف الصالح.
وعلى هذا الأساس، بنيت جزئيات دعوة الشيخ، وفرعياتها على العقيدة، والروح، اللذان هما الأساس في إصلاح القلب، باعتبار أن صلاحه صلاح كل شيء، وفساده فساد كل شيء، وذلك من خلال إحياء ما اندثر من علوم الكتاب، ومأثور السنة، وتصحيح المسار في العقيدة، وتخلّيصها من شوائب البدع. وهذا منهج في الدعوة مهم؛ لأن الدعوة بلا سلطة، والحق بلا دولة، يفقدان الرعاية، والحراسة، والدعم، وهو نهج يجب أن يعيه المصلحون، والقادة، فإن الانفصال المروع بين الدعوة، والسلطان، والدين، والحكم، جرَّ، ويجرُّ على المسلمين الضعف إلى الضعف، والفرقة إلى الفرقة. وحين يستشري هذا الضعف يضطرب الأساس، ويتناقض الولاء، وترتفع نعمة الالتئام، وبركة الاجتماع، ولا يستقيم الحال في ديار المسلمين إلا بحكم يحمي جناب التوحيد، ويطبق الشريعة، ويرعى الدين، والعلماء. وإلى هذا المعنى يشير - معالي الشيخ - سليمان، حين: « تأسست المملكة العربية السعودية على التوحيد، وقامت على كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالنصرة، والمؤازرة السياسية للدعوة من حكام الدولة السعودية، بدءًا من ذلك العهد، والاتفاق الذي تم بين الإمامين - محمد بن سعود، ومحمد بن عبد الوهاب - سنة 1157هـ - 1744م، كان له الأثر الفاعل في تمكين الدعوة، ونشرها في مشارق الأرض، ومغاربها، ولم يكن ذلك في دورها الأول - فحسب -، بل في أدوارها الثلاثة «.
من أهم أسباب نجاح دعوة - الشيخ - محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، أنها انطلقت من التوحيد، الذي هو أساس دعوة جميع الأنبياء، ووفَّت العقيدة حقها، ونبذت كل صور الشرك، والوثنية. كما أنها جسَّدت منهجَ أهلِ السنة، والجماعة في أجلى صوره، وسارت على خطى المجددين السابقين، وعلى معتقد السلف الصالح، والأئمة الأربعة، ومن تبعهم بإحسان، وهم في الفروع على مذهب - الإمام - أحمد بن حنبل - إمام السنة والحديث -، فلا يخوض في تأويل، ولا يتعمق في فلسفة، وإنما يقتدي بالأئمة من غير جمود.
لقد تخطت دعوة - الشيخ - محمد بثمارها، وبركاتها، وآثارها حدود المكان؛ فملأت آفاق الأرض، وتخطت حدود الزمان؛ فتجاوزت القرن الثاني عشر إلى عصرنا الحاضر؛ لتتحول اللحظات التاريخية بالتقاء - الشيخ - في مدينة الدرعية - بالأمير - محمد بن سعود - رحمه الله -، وحصلت بينهما البيعة تاريخًا، وموضوعًا، ومنهجًا على نشر التوحيد، وإقامة حكم الله في الأرض؛ ولتشهد الدعوة بعد هذا التحالف المبارك أروع تحول فكري، وسياسي، واجتماعي في قلب الجزيرة العربية؛ ولتصبح الدولة السعودية من أهم الدول المحورية في المنطقة؛ بسبب تواجدها الإقليمي، والدولي، ودورها المحوري في صناعة القرار السياسي، والعسكري عالميا. وهذا ما يجعلني أؤكد: على أن واقع سياسة السعودية الخارجية قد اختلف تماما، وأن دوراً إقليمياً ينتظرها على مستوى المنطقة؛ من أجل قيادة مشروع عربي موحد؛ الأمر الذي جعل من الجمع العقلي، أن يكون طاردا لكل ما هو ضار بمألوفات، وثوابت، ومكتسبات الدولة؛ لأن العالم أصبح - اليوم - يفكر كثيرًا أمام تلك السياسة الحازمة، التي تسبق أفعالها أقوالها.
إن ثقة العالمين - الإسلامي والعربي - في القيادة السعودية، تجسده الموازتة بين إمكانات الدولة، وتحركاتها السياسية - الداخلية والخارجية -؛ لتلعب دوراً مهماً في صقل السياسة الخارجية إلى جانب الأمن، والاستقرار العربي، - إضافة - إلى محافظاتها على مكتسبات الوطن، والوقوف أمام مهددات شرعية الدولة، والعمل على تحقيق الخطة التنموية الخمسية، والتي تبدأ من عام
2015 م؛ متضمنة أهدافاً؛ لعل من أهمها: تعزيز مسيرة الإصلاح المؤسسي، ودعم مؤسسات المجتمع المدني، ورفع كفاءة، وإنتاجية أجهزة الدولة، وموظفيها، ورفع جودة تنفيذ البرامج، والمشروعات التنموية، وتطوير آليات تنفيذها، وترسيخ مبادئ المساءلة، والشفافية، وحماية النزاهة، ومكافحة الفساد.
سيكتب التاريخ في صفحاته، كيف أن المملكة استندت إلى الحزم، والوضوح، والانفتاح، وربط المصالح مع دول العالم؟. وكيف أنها وقفت أمام أزمات - إقليمية ودولية - موقف الدفاع عن أمنها، وأمن المنطقة، ومجابهة مشروع الفوضى، والمتمثل في شرق أوسط جديد، وأحداث - ما سمّي - بالربيع العربي، - ومثله - بناء الاستراتيجيات الوقائية؛ للتعامل مع حكم الميليشيات في المنطقة، وتداعيات التنظيمات الإرهابية القاعدية، والداعشية؛ بسبب أخذها زمام المبادرة كدولة محورية قيادية في المنطقة. وهذا ما يجعلني - في قادم الأيام - أن أتنبأ بمستقبل سعودي أكثر نشاطاً، وتأثيراً في المنطقة.
خارطة دور المرأة
لا تأتي الإصلاحات في سياق التأثير الخارجي، أو كأنها رد فعل للأحداث الطارئة من حولنا، وإنما تأتي وفق التطور الداخلي للسعودية، واستكمالا للخطط التنموية المستقبلية؛ لتحقيق الأمن لمسيرة هذا الوطن، ودعم نموه المستدام، - إضافة - إلى تحقيق الرفاهية لأبنائه المخلصين، والارتقاء بهم، وزيادة فاعليتهم - داخليا وخارجيا -. ثم إن تغير الفتوى في المسائل الفرعية، بما يتلاءم مع اختلاف الزمان، والمكان، والأعراف، دليل على قوة الفقه الإسلامي، وتجدد حيويته بمسايرته ظروف العصر، ومصاحبته نهوض الأمة. وهذا يؤكد، على: أن الشريعة التي جاءت بسد الذرائع، جاءت - أيضا - بفتحها، وهو ما يطلق عليه لفظ: « الوسائل «، بشرط أن تكون المصلحة شرعية، وفق ضوابط الشريعة، وخصوصياتها.
إن اعتبار هذه القاعدة بسدها، أو فتحها، لا يكون إلا بتوثيقها لمبدأ المصلحة. وهي وإن كانت من القواعد المختلف فيها، من جهة اعتبار - كونها - دليلا شرعيا، يصح بها التحليل، والتحريم، إلا أنه - وبالاستقراء - يتبين للعالم، أن موارد التحريم في نصوص الكتاب، والسنة، منها: ما هو محرم تحريم المقاصد، ومنها: ما هو محرم تحريم الوسائل.
من جانب آخر، فإنه لا يمكن أن نحقق المصالح، وندرأ المفاسد إلا بتحقيق أصل الذرائع، وإتقان إيجادها في كل ضرورة من الضرورات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، بحسب ما تقتضيه حال كل ضرورة. وهذا هو الأساس الذي قامت عليه الشريعة الإسلامية؛ لتحقيق مقاصدها من جلب المصالح، ودرأ المفاسد، وما كان خلاف ذلك، فإن الشرع لا يقر إفساد أحكامه، أو تعطيل مقاصده، - ولذا - فإن رجوع هذه القاعدة إلى أصل اعتبار المآل، الذي قامت الأدلة الشرعية على تأكيدها، كاف في اعتبارها، والتفريع عليها.
فتنة التكفير
قضية التكفير قضية سياسية شرعية، تعالج بطريقة شرعية علمية منهجية، فهي مضبوطة بضوابط أصول العلم وقواعده. يمارسها ولاة الأمر بنص القرآن والسنة، إذ إن التكفير أمر قضائي موجود على مدار التاريخ الإسلامي، وليس موكولا لآحاد الناس، وهذا هو موقف السواد الأعظم من المسلمين، وتأكيد لكلام معالي الشيخ سليمان، بأن: « الكفر حكم شرعي ليس من الأحكام التي يستقل بها العقل، بل هو محض حق لله، ورسوله «.
وهي قضية مهمة وحساسة، أي: التكفير. يجب الاحتياط فيه - من خلال - كمال التثبت به، وضرورة التريث فيه إلى أقصى مدى، لحرمة دم المسلم وعصمته. فالأصل في المسلم براءة الذمة، والاعتداء عليه بتكفيره، هو: من أعظم ما توعد الله فاعله بوعيده. ولذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه «. بل إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امتنعوا عن إطلاق التكفير والتفسيق على أهل القبلة، فقد روى ابن عبد البر عن أبي سفيان قال: « قلت لجابر: أكنتم تقولون لأحد من أهل القبلة: كافر؟ قال: لا. قلت: فمشرك ؟ قال: معاذ الله، وفزع «.
كانت أول البدع ظهورا في الإسلام، فتنة التكفير. وكان أول المبتدعة أظهرها ذما في السنة النبوية، هم الخوارج. - ولذا - قال - شيخ الإسلام - ابن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى: « أول البدع ظهورا في الإسلام، أظهرها ذما في السنة، والأثر: بدعة الحرورية المارقة، فإن أولهم قال للنبي - صلى الله عليه و سلم - في وجهه: اعدل يا محمد ! فإنك لم تعدل. و الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه و سلم - مستفيضة في وصفهم، وذمهم «. وقال - الإمام - أحمد بن حنبل - رحمه الله -: « صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه، و قد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفة منها. قال النبي - صلى الله عليه و سلم -: « يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، و صيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية «. و في رواية: « يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان «.
وعليه، فإن التكفير، هو عمدة الفكر الإرهابي. وكل من أطلقه على الحكّام، وسحبه على المجتمعات دونما تفصيل، ومعرفة بالأحوال، ودراية بالوقائع، فهو يسير على نهج الخوارج منذ القدم. وقد قال المزني - رحمه الله -: « الخوارج، خرجوا على الأئمة بالسيف؛ لإنكار المنكر، فوقعوا في أنكر المنكر من تكفير الأئمة، وإنكارهم السلطان، وتكفيرهم الأمة بالصغائر، وهذا من أبدع البدع، وهؤلاء كلاب أهل النار «.
إن قضية التكفير كانت سببا لكثير من الانحرافات العقدية، التي ابتليت بها أمتنا الإسلامية منذ أربعة عشر قرنا، حين كفرت الخوارج علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، بعد حادثة التحكيم المشهورة، ثم أصبحوا خنجرا مسموما في خاصرة - الدولتين - الأموية والعباسية، واستمر التكفير إلى أن نشط في ستينيات القرن العشرين، وإلى يومنا هذا. ولأن تكفير المعين خطره عظيم، فقد قال ابن تيمية - رحمه الله -: « وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة. ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة «. وقال ابن عبد البر في التمهيد: « فالقرآن والسنة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له، أن كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين، ثم أذنب ذنبا، أو تأول تأويلاً، فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام، لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر، أو سنة ثابتة لا معارض لها، وقد اتفق أهل السنة والجماعة وهم أهل الفقه والأثر، على أن أحداً لا يخرجه ذنبه وإن عظم من الإسلام، وخالفهم أهل البدع. فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا أن اتفق الجميع على تكفيره، أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب، أو سنة «.
لا زال المسلمون يعانون من شر الخوارج، الذين حذر منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاية التحذير، وأمر بدرء شرهم عن المسلمين. فهم كفروا - بادئ الأمر - الحكام، ثم عمموا القول بالتكفير على كل أصحاب الكبائر، واستحلوا دماءهم، وأموالهم؛ بسبب حماستهم الزائدة، واشتباه الأمور عليهم بمحتملات الأدلة، التي ساء فيها فهمهم.
يتبين مما سبق، أن مدار شبهات الخوارج قائم على الطعن في ولاة الأمر من العلماء، والأمراء. وتلك جريمة شنيعة، نهى عنها الشرع المطهر، وذم فاعلها، - لاسيما - في ما يتعلق بمسائل التكفير، إذ لا يجوز الحكم على مسلم ثبت إسلامه بالردة، إلا بدليل شرعي يقيني، بمثل اليقين الذي حصل بدخوله في الإسلام. كما لا يجوز اتهام فتاوى العلماء بخلاف ما دل عليه الدليل تعمدا، بحجة ضغط ولي الأمر عليهم، أو عدم فهمهم لفقه الواقع، أو غير ذلك من الشبهات الباطلة.
إن مما يجب أن يفهم، أن من سنن أهل البدع التمسح بأهل العلم الراسخين بصحة المعتقد، وسلامة المنهج؛ من أجل ترويج بدعتهم. - ولذا - فإن النظر في هكذا مسائل عظيمة، لا بد أن يبنى على أصلين، أحدهما: ورود الدليل من الكتاب، أو من السنة الصحيحة على المسألة المتنازع عليها، مع ضرورة فهم الدليل، والآخر: تحقيق المناط في تنزيل الحكم على الدليل، أو إلحاقها بالدليل؛ لاستنباط الحكم الشرعي. وفي تقديري، فإن هذا المنهج العلمي يحسب - لمعالي الشيخ - سليمان في مقارعة هؤلاء الغاليين في الدين، والرد على شبهاتهم بالحجة، وكشف زيفهم، وهشاشة شبهاتهم، ونفي تدليسهم، وخلع تلبيسهم، وصنع فكر مستنير، يواجه بقوة الحجة الفكر التكفيري المنحرف.
خاتمة
وبعد، فمؤلف الكتاب أتقن فن السرد المتسلسل، وذلك حسب ترتيب القضايا المهمة التي تعيشها الأمة - اليوم -، مع ربط دقيق للأحداث، والتطورات، في محاولة جدية لفهم سلفي صحيح، استطاع - من خلاله - تسليط الضوء على ظواهر، لا أدّعي أنه قلما أُعيرت الاهتمام الكافي، وإنما كانت مشاركة جادة؛ لدرء السلبي من نتائجها، واستثمار الإيجابي منها، وإن كنت لم أستوف حق الكتاب في تناول فصوله - بشكل كاف -. ثم إن الشكر موصول لصحيفة الجزيرة،؛ لحرصها على التعريف بالكتاب الذي بحبره أثرى في محتواه، كما كرّست حضورها في كل عرض للكتب النافعة، وفي كل تجمع ثقافي؛ ولأقول لصحيفتي شكرا بطريقتي عبر المحبة التي أقدمها لها، وفي الذاكرة التي تحتل من مساحتها الكثير.