د. حسن بن فهد الهويمل
لما أزل، وسأظل مرتهنا لإشكالية المصطلحات المُسَيَّسة، بوصفها عتبات القراءة. ومفتاح الفضاءات المعرفية. ومفترقات الطرق، ومعترك الأقران.
وحين لا تكون المصطلحات جامعة، مانعة، قطعية الدلالة، محظية بالقبول من كل الأطراف، تكون كـ[الخمر]، و[الميسر] إثمُها أكبرُ من نفعها.
وهي إما أن تكون إطلاقات ربانية، أو مسكوكات بشرية. وحتى الإطلاقات الربانية حين لا يتخذها المستهدف بمقاصدها، ومقتضياتها، ويتلقاها على وجهها، تكون عَدُوَّاً، وحزنا.
فالإسلام حين جاء، جاء بسيل وافر من المصطلحات التي تلقاها علماء التفسير، والحديث، والفقه، وسائر المعارف النظرية على ضوء مقاصد المشرع. ولم تشكل رغم جِدَّتِها، وكثرتها أية عقبة.
وسأضرب صفحاً عن المصطلحات [العقدية]، و[التعبدية]، وإن كانت مثار جدلٍ عنيف بين الفرقاء، الذين لم يتحرر البعض منهم من التعصب المذهبي، وضيق العطن.
وقد أشرت في مقالات سابقة إلى طائفة من المصطلحات المراوحة بين العقيدة، والفكر السياسي الإسلامي، التي تلقتها بعض الطوائف والأحزاب الحركية، كـ[الجهاد]، و[التكفير]، وما تناسل في إثرها من مصطلحات بعد التطبيق العملي، والتنظيري: كـ[الحاكمية]، و[تداول السلطة]، و[تكافؤ الفرص]، و[الأحلاف]، و[السلم] و[الحرب]، و[دار الكفر]، و[دار الإسلام] وغير ذلك كثير من المصطلحات التي يحرفها البعض، فيما يضيق ببعضها آخرون. وكان الاختلاف حول مفاهيمها من أهم أسباب الفرقة.
ومرد الشقاق، والتنازع إلى فهمها الخاطئ المتضخم من جَرَّاء التجييش العاطفي. إذ لو فهمت على وجهها، لكانت مقبولة من الجميع، ولما ترتب على هيمنتها أي ضرر، أو إحراج لكافة المشاهد.
ودعك من إفرازات الفكر الديني، والاجتماعي، كقضايا المرأة من [حجاب]، و[اختلاط]، و[قيادة] وغيرها.
المجتمع النخبوي المتصدر للشأن العام، والمندسون فيه. كل أولئك تتفرق بهم السبل، بسبب تقديم سوء النوايا، وسوء الظن على حسنه. ولأن المجتمع مُخْتَرقٌ، مُوْبُوء، تحكمه أنساق ثقافية، نسجتها على حين غفلة أيدٍ مَشْبوهة، وتلقفتها نوازع مذهبية.
والضالون، المضلون، المتضلعون معرفة، والمشبوهون انتماء، لا يرضون الرد إلى الله، والرسول، ولا يترددون في تحريف الكلم عن مواضعه، وينسون ماذكروا به.
ومن تمترس خلف إمامه، أو مذهبه، أو احتكر الحقيقة عند التنازع، عمق هوة الخلاف، وانتقل في جدله من [اختلاف التنوع] إلى [اختلاف التضاد] التصادمي، الإقصائي.
وذلك ما يسود كافة المشاهد. وهو المعاش في زمن القابلية لكل ناعق، والتلقي لكل مكيدة.
والله حين رضي لنا [الإسلام] دينا، وسمانا بـ[المسلمين]، أصبح التمكين للمسميات التجزيئية، والتمترس خلفها خروج عما رضيه الله، وَرَفْضٌ للمسمى الرباني، الذي اختاره، ليتسع لكل الأطياف.
ومن توفرت فيه إمكانيات الاجتهاد الشرعي، فإن من حقه أن يعدل عن مفاهيم غيره إلى مفهومه، لأنه متعبد بالتلقي، لا بالتقليد، ولكن ليس له أن يُلزم غيره مفهومه، ولا أن يناصب [جماعة المسلمين] العداوة، لمجرد أن رؤيتها خرجت بمفاهيم تخالف مفهومه.
ولو أراد الله لرسالته، ولرسوله واحدية المفهوم، لجعل رسالته نصّاً برهانياً، لا يحتمل إلا مفهوماً واحداً، بحيث يجري عليه مفهوم القاعدة الفقهية: [لا اجتهاد مع النص].
و[النص] عند الفقهاء هو الدليل البرهاني القاطع، الذي لا يحتمل إلا دلالة واحدة، بمعنى أنه نص قطعي الدلالة. وليس كذلك مفهوم [النص] عند الأدباء، والنقاد الألسنيين.
وإشكالية المصطلحات كافة أنها تتناسل كل لحظة، ولكل نوع من أنواع المعارف عالمه المستقل.
وما من حقل معرفي إلا هو مأزوم بإشكالية المصطلح، ولكن الحقول المعرفية تكتفي بالجدل، فيما يلجأ المسيَّسون إلى السنان، وكان بالإمكان معالجة الوضع باللسان. ولا سيما أن اللاعبين يجدون مرادهم في هذا التناحر، ليفسدوا ما كان بالإمكان إصلاحه.
وأمتنا المأزومة أتيت من هذه الثغرات، التي حرف الضالون فيها مفاهيم المصطلحات، من بعد ما عقلوها، وهم يعلمون.
ومعضلة المشاهد تكمن في إمكانية سك المصطلحات لكل متلبس بالشأن العام. وقد يطلق الفضولي الكلمة، لا يلقي لها بالاً، ولا يريد لها أن تتحول من دلالتها الوضعية إلى الدلالة المصطلحية، فتكون مصطلحاً مأزوماً.
وقد يتقصد المغرضون تشويه أي حركة إصلاحية، فيطلقون عليها مُسَمَّى، ثم يغمرونه بأقذع الأوصاف، ويُلِحوُّن في تكريسه بهذا المفهوم المذموم، فيتحول إلى مصطلح معيب، يتأذى منه الموصوف به، ولا ينجيه من عقابيله إلحاحه برفضه، والتخلي عنه.
وأسوء الأحوال أن تُبلى المشاهد بالكذاب الأشر، الذي لا يتحرج من افتراء الأباطيل، سعياً وراء تضليل الرأي العام، وتزييف وعيه، وتوهين خصومه.
والمصداقية، وقول الحق حين ينعدمان، تتحول المشاهد إلى سوح للمناكفات المسفة.
وبقدر استياء العقلاء من افتراء الخصوم، يستاء العدول المحترمون للمصداقية من اقتراء الموالين لهم على الخصوم. فالحق، والعدل مطلبان إسلاميان.
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.