د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
أعلنت جامعتان من كبرى جامعاتنا عن تغيير في مناهج الثقافة الإسلامية، لتكون أكثر اعتدالاً وتسامحاً. وكما يعلم الجميع فجامعاتنا تفرض هذه المواد كمتطلبات إلزامية خارج الخطط الدراسية المتخصصة، لأننا دولة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية، بها هبطت الرسالة السماوية، وبها قبلة المسلمين والحرم النبوي الشريف. وللعارفين بالمدلولات اللغوية، فالإسلام مثله مثل اللغة العربية كلمات جامعة شاملة لمجالات واسعة من الدراسات والرؤى والمواقف التي تفتح الباب أمام الاجتهاد والدرس والتجديد، وهذا سبب تجدد هذه الدراسات بزخم قوي لتتناسب مع كل عصر.
دخلت الجامعة قبل ما يقارب الأربعين عاماً، جامعة الملك سعود، وتلقيت كبقية زملائي الثقافة الإسلامية من أستاذة معظمهم من الإخوان المسلمين درسوا هذه المواد باجتهاد وعن قناعة، وكان الكثير منهم وسطي وموادهم بدت لنا كالسرد الممتع رغم أنه لا حوار فيه ولا جدل حوله. اعتقدنا أن هذه المواد مثلها مثل مواد المطالعة في مراحل التعليم السابقة مجرد تحصيل حاصل. ونتيجة لضيق اطلاعنا، وتزاحم المواد علينا، آمنا بأن كل ما يقال لنا صحيح لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، منزّل كالقرآن الكريم. وصدقنا أيضًا أن كل من يختلف عنا اتبع بالضرورة معتقدًا محرفًا بأسلوب أو بآخر. سارت الأمور هكذا والناس تعيش بسلام ولها تطلعات كتطلعات الشعوب الأخرى.
سافرنا إلى أمريكا في وسط السبعينات وكانت تمور بما بعد حرب فيتنام، وأجواء الجامعات الأمريكية مسيسة إلى حد كبير، وتحول معظم الشباب الأمريكي إلى «هيبيز»، طبيعيين يعارضون المدنية ويعارضون النظام السياسي كمبدأ، ويعارضون حكومة نيكسون بالذات. وفي نهاية السبعينات حدث تغير في أيران وتسلم الخميني السلطة، واعتبر الكثير من المتحمسين أن تلك فعلاً ثورة مجددة للإسلام، وفرح بذلك طلاب كثر منهم طلاب سُنة اغتروا بها كنصرة للإسلام على الشاهين شاه الظالم المتكبر الذي أراد تغريب إيران غصباً عنها. وكانت هناك منظمتان إحداهما للطلبة العرب يسيرها عرب يساريون، وأخرى للطلاب المسلمين يسيرها طلاب عرب معظمهم خليجون ومعهم طلاب إيرانيون. وبذلت منظمة الطلاب المسلمين جهداً كبيراً لتعريف الأمريكان الحائرين بالثورة الخمينية المجددة. ثم أُخرجت أمريكا من فيتنام بمساعدة الروس، ودخلت روسيا إلى أفغانستان لحماية النظام الشيوعي هناك، ربما باستدراج أمريكي.
عدت للمملكة في أوَج الحرب الأفغانية والمد الجهادي الأفغاني على أشده والأجواء غريبة حقاً. فكانت تلك مرحلة انتشار الإيمان بالمعجزات، والقداسات والكرامات للمجاهدين الأفغان ليس بين الطلاب الشباب فقط بل بين كثير من أعضاء هيئة التدريس بعضهم تعلم في الخارج. كان لكل مجموعة من الشباب العربي قائد أفغاني مسلم يبجلونه ويدعمونه بالمال والرجال، لأن أفق دولة الخلافة يلوح من كابل. واعتبر مارقاً زنديقاً كل من يشكك في هذه الكرامات، ولا يطيل لحيته، ويسبل ثوبه. وذات مرة، دار نقاش بيني وبين ثلاثة من الزملاء لإقناعي بأن لدي قصوراً فكرياً وعقدياً في عدم تصديق أن الطير الأبابيل تقصف الروس، وأن أيادي بيضاء تخرج من قبور المجاهدين الأموات لتصافح المجاهدين الأحياء، وأن رائحة المسك تفوح من أجساد الشهداء لأن الملائكة تطيبهم. والواقع أني بدأت أقلب هذه الأفكار لكثرة تواترها بين الزملاء، ولكني كنت أجد صعوبة في تصديقها لأن الأمريكان الذين دعموا المجاهدين بالسلاح والصواريخ والاستخبارات ليسوا مؤمنين ولا يمكن أن تكون لهم كرامات. وكان بعض زعماء الدعوة للجهاد، ومنهم فلسطيني، يوجب جهاد الروس لأنهم ملاحدة، ويرى مهادنة الصهاينة الذين هم من أهل الذمة! وفي صراع قوي مع النفس قررت أن اتخذ موقف «اللاأدري» من هذه المسائل بينما استمر بعض زملائي في ازدراء ضعف إيماني لعدم تقبلي لهذه الكرامات، وكانت مرحلة صعبة فعلاً.
اتضح فيما بعد أن ثورة الخميني ليست إلا ثورة طائفية عنصرية، وتحول الجهاد ضد الروس بما فيه من كرامات إلى حرب ضروس بين قادة المجاهدين أصحاب الكرامات حول النفوذ والسلطة. وتحولت أفغانستان إلى أكبر مصدر للحشيش في العالم. انتهى الجهاد الأفغاني لكن الأدب الجهادي الأفغاني والتصديق في الكرامات استمر بين كثير من الشباب رغم أن كثيراً من زملائي هذَّب اللحى وأسبل الثياب. استغلت بعض أجهزة الاستخبارات تجذر هذه العقليات الجهادية لدى بعض الشباب لتعبث بسلم ومقدرات دولنا العربية. واستغلت إيران عقدين من الأدلجة الجهادية لتعلن حرباً جهادية خاصة بها للانتقام من السُنَّة لمقتل الحسين قبل 1400 عام!!! واليوم يصدق شبابها بالكرامات الحسينية كما كان شبابنا متحمساً للخرافات ككرامات أفغانية آنذاك. ما حصل في هذه المرحلة هو تدمير لعقلية الشباب في المعسكرين، ولذا أتى توجيه بعض مناهج الثقافة الإسلامية نحو الوسطية، والاعتدال والتسامح مؤاتيان ومهمان في هذه المرحلة.