عبدالعزيز السماري
«لا تكن ملكياً أكثر من الملك» مقولة تعني الكثير في مختلف أبعاد الحراك الديني والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وقيل أيضاً في الغرب «لا تكن بابوياً أكثر من البابا»، أو «ماركسياً أكثر من ماركس»، وهي تعني ذلك الفهم الضبابي لمسألة الولاء أو الإخلاص عند العقول المختلفة، والتي تعتقد خطأ أنها تمثل عيون وأذان السلطة التي تقوم بحراستها على الثغور.
بسبب تلك الرؤية الضبابية تبدأ ثقافة المزايدة في الإخلاص والتفاني للمبدأ، وتبدأ رحلة إغلاق النوافذ التي يدخل منها الهواء والنور لحجج كثيرة، منها أنه يعتقد أنه يؤدي عمله بإخلاص، وأنه يتفاني في حماية الوطن أو الإيدولوجيا أو الدين من العقول المتآمرة و الأفكار الشريرة، وهو ما يؤدي في نهاية الأمر إلى خنق المجتمع في قالب واحد أو لون واحد..
تجربة الغرف المغلقة خاضتها معظم المجتمعات المكبلة بأيدولوجيا أو حزب سياسي شمولي أو سلطة جيش، فقد كانت المزايدات حول الولاء للسلطة سبباً في اختناقها في نهاية الأمر، وهناك من الأمثلة ما يتجاوز الحد المعقول سواء كان ذلك على المستوى العربي أو الأقليمي أو الدولي، بينما ازدهرت الدول التي احترمت ثقافة الرأي والرأي الآخر إذا كان ملتزماً بأمن الوطن وخاضعاً لقوانين حرية التعبير.
كان هذا النمط من الحراس من أهم أسباب سقوط الدول والأحزاب الشمولية والجماعات الإسلامية المسيسة، فقد كانت التراتبية الهرمية والضبابية في الولاء والطاعة سبباً لانتشار الطابور الخامس بين أعضائها، ولجمودها ونهايتها المآساوية، وقد كان الحراس الذين يقمعون الرأي والرآي الآخر هم أول من خان الحزب أو الجماعة المسيسة في المنعطفات السياسية، وكان ذلك واضحاً في تساقط أعضائها تباعاً وخروجهم عن خط الحزب أو الجماعة.
عندما تنتشر الهالة الضباببة حول الخطوط الحمراء، تزداد بارانويا الحراس، وقد يصلون إلى الشك في كل شيء من نحوهم، ويشمل ذلك أعضاء الجماعة المخلصين، وتتحول المسألة إلى غابة من الأسلاك الشائكة، ويعتقد هؤلاء أنهم بذلك يرسلون رسالة للشيخ أو لرئيس الجماعة أو الحزب مفادها أنهم أكثر إخلاصاً ووفاءً من الآخرين.
كان فقه المراجعات تجربة حية خاضتها بعض الجماعات الإسلامية، كانت نتيجتها أن تخلى الكثير منهم عن قيود الجماعة وأصفادها، ثم انفتاحهم على مختلف الآراء والأعضاء، وكان ذلك سبباً لتراجع كثير منهم العنف والتسلط تحت مظلة الإخلاص المطلق والولاء الأعمى، والمراجعة محطة مهمة في تطور مختلف المجتمعات.
لا تتوقف هذه التجارب عند الجماعات الإسلامية أو أحزاب البعث والعسكر والماركسيين، لكنها تكاد تنطبق على كل شيء في الحياة، فمحاولة كبت الآراء تحت حجج واهية لا تستند إلى قانون واضح هي مجرد اجتهادات في مضمونها الضرر لمن يعتقد أنه يقوم بدور المخلص أو الحارس الأمين لهم.
تداول الآراء واختلافها في المجتمعات ضروري لحيويتها وصحتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بينما يؤدي كبت الرأي إلى المرض الاجتماعي الأشهر النفاق والتطبيل، وإذا لم تتجاوز المجتمعات الشرقية هذا النفق المظلم لن تنجح في تحدياتها القادمة في التغيير.