إبراهيم عبدالله العمار
سؤال: ما آخر إنجاز إسلامي عظيم؟ ربما تضرب بعض الأمثلة المحلية، لكن يصعب عليك تذكّر شيء تآزر عليه الناس من شتى أراضي الإسلام، وسأعطيك الإجابة: سكة حديد الحجاز.
وصل خط الحديد هذا بين مناطق الدولة العثمانية أول القرن الميلادي الماضي، أبرزها اسطنبول ودمشق ومكة والمدينة والبحر الأحمر. أثار فرحاً وأملاً في العالم الإسلامي وضجة وقلقاً في أوروبا. ضغطَ بشدة على خزينة الدولة وعلى الأيدي العاملة المتطوعة. وفي النهاية، ترك أثراً لا يُنسى.
أتت الفكرة لتسهيل الحج، واكتسب الخط أهمية لحماية مناطق الدولة (ومنها الحجاز) من الأعداء، وذلك وقت اشتعال النزعة الاستعمارية الأوروبية التي لم تترك بلداً إلا احتلته وعاثت فيه فساداً، ورأى الخليفة عبدالحميد الثاني أن خط الحديد وسيلة حربية ضرورية ذاك العصر، تنقل الجنود والمؤن بسرعة، وهو يعرف مكائد وخبث الأوروبيين الذين يخططون لتقسيم الدولة الإسلامية.
في 1900م أقر الخليفةُ المشروعَ رغم علمه بصعوبته الشديدة، فالدولة تمر بأزمة اقتصادية طويلة، وتنقصها خبرة بناء سكك الحديد وتحتاج خبرات أجنبية، والأيدي العاملة قليلة، والظروف السياسية خطرة. كان وضعاً عسيراً. بدأ العمل واضطر الخليفة للاستعانة بمهندسين ومستشارين أوروبيين.
كما يفيدنا الدكتور متين هولاغو Metin Hulagu في كتابه «سكة حديد الحجاز»، كل سكك العثمانيين بناها وشغلها غربيون، ما عدا سكة الحجاز التي بناها الأتراك بإشراف مهندسين غربيين أداروا كل المشروع ما عدا مكة والمدينة التي مُنعوا دخولها، وهنا كان المشروع إسلامياً خالصاً، أداره المهندسون المسلمون. كانت أكثر الأيدي العاملة من تركيا والعراق وسوريا، الذين تحمّلوا الأجواء القاسية، والأوبئة الفاشية، وأوضاع العمل الشاقة، وتوفي منهم المئات، لكن صبروا ابتغاء الثواب. الدولة خصصت خُمس ميزانيتها للمشروع، ومع ذلك احتاجت المزيد، لكن كرهَ الخليفة الاقتراض من أوروبا واتجه إلى المسلمين، الذين تحمسوا لهذا المشروع الإسلامي، فأتت التبرعات من الهند وتركيا والجزائر والسودان وغيرها، رغم بساطة حالهم. ظلت القبائل المحاربة تقطع الطريق وتغِير على العثمانيين والحجاج، وبنى العثمانيون حاميات كثيرة لحماية الناس، والماء شحيح والتضاريس وعرة والطقس قاسٍ، فبنوا مئات الجسور والأنفاق وصهاريج الماء والمستشفيات والمصانع والمخازن. وظّفت الدولة جيشها لتمديد السكة وأعمال أخرى، وعملوا جاهدين محتسبين الأجر من الله لهذا العمل الذي سيخدم أمة الإسلام.
أول مرحلة هي تشييد خط بين درعة ودمشق، بعدها بثلاث سنين وصل الخط إلى عَمّان ومعان، عام 1906م وصل إلى مدائن صالح ثم إلى مكة والمدينة في 1908م. كانت رحلة الحج أو العمرة بالإبل تأخذ شهرين من اسطنبول، ومن دمشق تأخذ 40 يوماً، كلها شديدة المشقة بسبب الرحلة، والجو (حرارة أو برودة بالغة)، وقطّاع الطرق، ومخاطر الدرب، وأما الآن فلا يأخذ الحاج من اسطنبول إلا 3 أيام فقط. أضيفت محطات كثيرة، منها تَفرُّعٌ إلى بيت المقدس عام 1911م -طهرها الله من اليهود-، وما انتهى الخط إلا وقد امتد 1900 كيلومتر رابطاً مدن الدولة الشاسعة. كان فخراً للأمة الإسلامية.
ظهرت فتن كثيرة أول القرن الماضي منها الحرب العالمية الأولى التي هُزم فيها المسلمون، وتقاطب الأوروبيون فرحين يمزقون بلدنا، وكان من أهم قراراتهم تدمير سكة حديد الحجاز، واليوم لا زال هناك آثار بالأردن وسوريا والمدينة المنورة لهذه السكة، التي كانت ذات يوم رمزاً لوحدة المسلمين.