حمّاد السالمي
من قرأ البيان الصادر عن رابطة العالم الإسلامي- ممثلة في المجمع الفقهي الإسلامي- في مؤتمره الدولي الذي انعقد قبل أسبوعين في مكة المكرمة تحت عنوان: (الاتجاهات الفكرية بين حرية التعبير ومحكمات الشريعة )؛ لا بد أن يشعر بالارتياح والفخر؛ كون علماء المسلمين ومفكريهم الذين مثلوا بلادهم وشعوبهم في هذا المؤتمر؛ كانوا على مستوى المسئولية، وجاء خطابهم من هذا المنبر؛ عاكسًا تماهيهم مع فقه الواقع الذي يراعى مصالح الناس مسلمين وغير مسلمين، ويحترم عقولهم أولًا، ويقدر مخاطر العبث بحياتهم، حيث نعيش فترة تاريخية حرجة، يتقدم فيها الجهل على العقل، ويتسيّد الرعاع المشهد العام، ناشرين ثقافة الكراهية بدل الحب، ومغذين لغة الحرب بدل السلام، متاجرين بالدين مذهبيًا وطائفيًا، مرخصين بذلك دماء الناس وأعراضهم وأرواحهم.
شكرًا رابطة العالم الإسلامي في عهدها الجديد المستضيء بسماحة الإسلام المنفتح على البشرية كافة؛ دون تعصب ولا تمذهب ولا كره لأحد. شكرًا د محمد عبد الكريم العيسى أمين عام الرابطة، فقد شعرت حقيقة وأنا أقرأ بيانكم أني أمام لغة عاقلة، ورابطة جديدة، كنا نحتاج لهما منذ خمسين عامًا، فها هي جاءت لتقول للعالم كله من مكة المكرمة؛ مركز الأرض وقبلة المسلمين؛ ما كنت وغيري من كُتّاب وطني نطالب به منذ عقود، من تحكيم العقل في مخاطبة العالم من حولنا، ومن سعي جاد لإصلاح الخطاب الديني المتورط في تأزيم علاقاتنا بالآخر. بل.. وإفساد علاقاتنا ببعضنا البعض.
انطلاقًا من هذا البيان الحجة لنا وعلينا؛ نستطيع أن نقول: إن رابطة العالم الإسلامي؛ تشهد حراكًا جديدًا منفتحًا على الآخر القريب والآخر البعيد، وأنها تعيش فكريًا تاريخها الذي هي فيه وليس الزمن الذي تفصل بيننا وبينه قرون وعقود لا تمت لحاضرنا بصلة.
مما جاء في البيان وليس كله: دعوة الهيئات والمؤسسات الحكومية والأهلية في العالم الإسلامي؛ إلى ترسيخ القيم العليا في الإسلام، الداعية إلى المحبة والبر والتسامح والتعايش والوئام، والحيلولة دون أسباب النزاع والفرقة والكراهية، ومن ذلك تفهم سُنة الخالق جل وعلا في الاختلاف والتنوع والتعددية، والحفاوة بتعدد المدارس الإسلامية في سياق عطائها العلمي والفكري المشروع، واعتباره من مظاهر سعة الشريعة الإسلامية وعالميتها ورحمتها بالعباد، والحذر من ازدراء أتباع المذاهب الإسلامية، وأسباب النزاع وإثارة النعرات المذهبية والطائفية، وتجريم هذا العمل تحت طائلة المساءلة القضائية.
وطالب البيان المسؤولين بالتصدي للقنوات والوسائل الإعلامية، التي تثير مفاهيم الكراهية والازدراء والتحريض والتأجيج بين المسلمين، أو بينهم وبين غيرهم، لما فيها من المفاسد، والحذر من التساهل في التصنيفات الدينية والفكرية، سواء للهيئات أو المؤسسات الحكومية والأهلية أو الأفراد، واعتبارها وقود الفتنة بين المسلمين، وفتيل التطرف والتناحر والتدابر.
كما حذر البيان من التساهل في التكفير والتبديع والتفسيق، وعلى أهل العلم والإيمان؛ التماس الأعذار لإخوانهم، وحسن الظن بهم، وتبيان الحق والنصح لهم بالحكمة، والحذر من سلبيات التعالي والإقصاء، مع استصحاب أن الحق لا يختص به أحد دون سواه، ولا يحتكره دون غيره، وعلى الجميع مؤسساتٍ وأفراداً؛ أن يتهموا آراءهم قبل اتهام آراء غيرهم، وأن يعلموا أن القناعات لا تفرض، وإنما تساق بأدلتها في سياق أدب الحوار وفقه الاحتواء على هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في خلقه العظيم، وقوله الله تعالى عنه: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ).
وطالب البيان الجاليات الإسلامية في البلاد غير الإسلامية؛ احترام دساتير وقوانين وثقافة البلدان التي يعيشون فيها، والالتزام بخصوصياتهم وفق الأدوات الدستورية والقانونية المتاحة، والتقيُّدَ التام بما تنتهي إليه من حسم نهائي، ومن لم يسعه المقام؛ فيتعين عليه مغادرتها دون إخلال بالنظام أو إساءة للوجدان العام، ودعا الجاليات الإسلامية والهيئات والمؤسسات والمراكز الإسلامية في البلدان غير الإسلامية؛ إلى توعية الجاليات الإسلامية باحترام دساتير وقوانين وثقافة البلدان التي يعيشون فيها، وأن أي إساءة لذلك؛ من شأنها أن تسيء للإسلام، وتنفر منه، أو تضعه في دائرة الاتهام، والإسلام بريء من ذلك كله، وعليها أن تكون في أعمالها ومناشطها واضحة شفافة داعمة للسلم والتعايش، وأن تكون فاتحة خير وإضافة للدول التي تقيم فيها، معينة لها ومسهمة في سِلمها وأمانها، وأن تكون أعمالها الإغاثية إنسانية، كما أمر الله تعالى بذلك، في قوله سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}، فجاء التنويه والحث على إطعام الأسير المحارب، فكيف بغيره. وأن يعوا بأن الإسلام عبر تاريخه الطويل؛ لم ينتشر ولم تتقبله القلوب؛ إلا بهذه السعة والرحمة التي بعث الله بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، حيث يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
كما أكد البيان على اعتبار المواجهة الفكرية للتطرف والإرهاب المرتكزَ الرئيس لاجتثاثه من جذوره، وأن المواجهات العسكرية مع أهميتها البالغة في درء خطر الإرهاب؛ لا تحسم المعركة النهائية معه، وأن كيان الإرهاب هو عالم افتراضي واسع، وأن كثيراً من عملياته الإجرامية؛ تتم بتمويلات زهيدة يسهل الحصول عليها، ومع ذلك فما يساعد في السيطرة على موارده؛ مراقبة التحويلات المالية، مع تقليص التبادل المالي التقليدي عن طريق خيارات التبادل بالبدائل المصرفية الحديثة. وهنا تفاصيل أوسع: (http://www.al-jazirah.com/2017/20170322/ln59.htm).
هذه مضامين غاية في الأهمية؛ كان ينبغي أن تكون حديث وسائل الإعلام، ومحورًا رئيسًا للمنابر الجُمْعية في بلادنا وبلاد العرب والمسلمين كافة، لأنها تمثل الحق الذي جاء به دين الإسلام، وليس الحق الذي تريده جماعات وفئات ترعى الإرهاب وتديره، وتدعي أنها تنتسب لدين الإسلام، ثم يُدان الإسلام والمسلمين بهذه الأفعال الشاذة.
إذا لم يُسمع صوت الحق هذا في ديار العرب والمسلمين بما يكفي؛ فلعله يكون مسموعًا في ديار الغرب والشرق؛ ليعرف الكل أن الإسلام ليس داعش، ولا القاعدة، ولا جماعات التكفير والتفجير والقتل التي وصلت إلى عواصمهم، وأن أصوات الكراهية والعنف التي تصدر من بعض منابر المسلمين؛ لا تمثلهم، حتى لو كانت هي الأعلى في هذه المنطقة أو تلك.