د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
يزخر وطننا بعددٍ لا بأس به من المبدعين في مختلف الأجناس الأدبية، أجزم أنَّ كثيراً منهم لم تتح له فرصة الانتشار والاشتهار، أو لم يتهيأ له جمع نصوصه ونشرها.. ومهما كانت الأسباب إلا أنَّ ذلك لا يعني أنَّ هناك علاقة بين القدرة على النشر والإصدار وبين جودة الإنتاج؛ فقد ينشر الرديء ويحجم الجيد، وهنا تأتي مهمة الناقد الحاذق الذي يملك القدرة على التمييز بين الغث والسمين، والتفريق بين الجيد والرديء، وعدم الانجراف وراء بريق الإصدار، وزيف الغلاف، وخداع الإهداء.
لا أدري إن كان لهذه المقدمة علاقة بموضوع هذا المقال، إلا أنَّ المتأمل في إنتاجنا الأدبي والنقدي يلحظ أنه - في الأعم الأغلب - على نوعين: إما نصوصٌ شعريةٌ وسرديةٌ، يحاول فيها المبدع أن يظهر قدرته اللغوية، وتمكنه الإبداعي، بالتحليق في فضاءات الخيال وجماليات الدلالة. وإما مؤلفاتٌ نقديةٌ تنظيرية، تؤصِّل وتنظِّر وتضع القواعد اللازمة لنقد النصوص، والقوانين الخاصة بمعالجتها، وتلمُّس أسباب جمالها، وإصدار الأحكام عليها، وربما أوردتْ على استحياء قليلاً من النماذج التطبيقية التي توضِّح هذه القواعد والقوانين.
وهكذا ينشر المبدعون أعمالهم، ويُصدِر النقاد مؤلفاتهم، ونجد أنفسنا أمام خطين متوازيين لا يمكن أن يلتقيا، كلٌّ يغني على ليلاه، ويكتب لنفسه دون أن ينتبَّه إلى وجود الآخر، فيضحى إنتاجنا بين أعمالٍ إبداعيةٍ لم تفحص، وتجارب شعريةٍ لم تدخل حيز الاختبار والتقويم والنقد، وبين قواعد نقديةٍ ونظرياتٍ منهجيةٍ وقوانين تقويمية، منغلقةٍ متقوقعةٍ على نفسها، لا يُعرف لها تطبيقٌ في الخارج، وعلى أرض الواقع، وفي ساحة الإبداع.
إنَّ الناظر في واقع إنتاجنا الثقافي يلحظ ضموراً واضحاً في الدراسات النقدية التطبيقية، في مقابل تضخُّم واضحٍ للأعمال الإبداعية والدراسات النقدية التنظيرية، وهو ما يؤدي إلى خلل في التطور الأدبي والثقافي؛ إذ لا يمكن أن تتطور هذه الأعمال الإبداعية ما لم تُواجَه بدراساتٍ تتناولها بالنقد والتوجيه، والتقويم والإرشاد، دراساتٍ نقديةٍ جادَّةٍ، تتلمَّس فيها مواطن الضعف والرداءة قبل مواضع الإجادة والإحسان؛ حتى ترسم لأصحابها طريقاً قويماً، يضيء لهم مستقبلهم الإبداعي، وتسهم في تطورهم وتقوية تجربتهم الشعرية أو السردية.
ثم إنَّ وجود هذه الدراسات النقدية التطبيقية تُنبِّه المبدعين إلى أنَّ هناك مَن يقرأ وراءهم، ويتتبَّع إنتاجهم، ويراقب إبداعهم. ومتى خلتْ الدراسات النقدية من المجاملة، وكانت جادَّةً صارمةً مخلصةً أمينةً نزيهةً، فإنَّ هذا سيؤدي إلى حرص المبدعين على ما يصدرونه من إبداع، والتدقيق فيما ينشرونه من إنتاج أدبي. أما المحسن المجيد الواثق من إنتاجه فسيرى في هذه الدراسات تشجيعاً له، وتقويةً لقدراته، وتطويراً لإمكانياته. أما المسيء الرديء فسيتردَّد ألف مرَّةٍ قبل أن يُقدِم على نشر أعماله؛ إذ يعلم أنَّ سهام النقد ستفضحه وتكشف ضعفه؛ فيوفِّر بذلك الجهود والأموال، ويريح الناس من شرِّ نصوصه الواهنة.
وإذا كان ما سبق يكشف عن فائدة المبدعين من التطبيقات النقدية، فإنَّ فائدة النقاد من إنتاج أولئك المبدعين لا تقلُّ أهميةً عن هذا؛ إذ سيجدون في هذه النصوص مساحةً واسعةً لاستعراض قدراتهم النقدية، وإبراز مواهبهم، وسعة اطلاعهم، وغزارة ثقافتهم، وإظهار عمق تأملهم، ودقة تفكيرهم، خاصة أنهم أمام نصوصٍ حديثة، لم تعبث بها أقلام النقاد السابقين، وإنتاجٍ بكرٍ لم يُكشف عن أصدافه وجواهره.
ثم إنَّ التعامل مع هذا الإبداع سيُسهم في توضيح تلك القواعد النقدية النظرية التي يُجهِد النقاد أنفسهم في تقعيدها ورسم منهجياتها، دون أن يكون لها صدى على أرض الواقع، ولا ريب أنَّ استثمار هذه النصوص، من خلال اتخاذها مادَّةً تطبيقيةً للنظريات والمنهجيات التي يرون صلاحيتها في تفسير الأعمال الإبداعية، يكشف عن مدى صلاحيتها، ويبرز نقاط قوتها وضعفها للقارئ الذي ظلَّ طويلاً يقرأ في هذه النظريات والمناهج دون أن يفهم حقيقتها بوضوح.
إنَّ اهتمام النقاد بالتنظير النقدي وإهمال التطبيق يؤدي إلى خداع المبتدئين في هذا الفن الجميل، ويوهمهم أنه مجرَّد علومٍ جافةٍ وقواعد يابسة، لا مجال فيه للإبداع والتحليق في فضاءات اللغة والإبداع والخيال، ومن ثمَّ يحجمون عنه فلا يخوضون غماره، ولا يجرون في مضماره؛ لأنهم ظنوا أنَّ هذه النظريات هي حقيقته، وربما حفظ أحدهم هذه القواعد والمناهج، فأصبح يردِّدها في كل محفل، دون أن يفهم منها شيئًا؛ لأنه تعلمها نظرياً دون تطبيق، وهكذا تخرج علينا كلَّ يومٍ نظريةٌ إثر أخرى، ومنهجٌ تلو آخر، دون أن يكون لذلك صدىً في عالم الإبداع، فلا صاحب النظرية أفاد، ولا مُتعلِّمها استفاد، أما المبدع فهو الخاسر الأكبر في هذه الأرض اليباب.