فيصل أكرم
الغربالُ معروف، إنما أعني بالنفاد نفاد النسخ المطبوعة من كتاب ما.. ديوان شعر مثلاً، وهذا ما حدث معي بالضبط: بعد صدور ديواني الخامس المعنوَن بـ (مقدّمة الكتاب الأخير) عن النادي الأدبي بمنطقة حائل عام 2002 وكان النادي قد أرسل لي مشكوراً مئتي نسخة منه ظللتُ أهدي منها لأصدقاء ومهتمين ومن يطلب حتى انتبهتُ قبل عشر سنين تقريباً أن جميع النسخ التي كانت عندي قد نفدت.. لم أعد أملك نسخة واحدة من هذا الديوان الذي يحتوي على خمسين قصيدة كتبت بين عاميْ 1997 – 2001 وتتضمّن الجزء الأكثر تنوّعاً على امتداد أربع سنوات من عمر تجربتي الشعرية في أوج غزارتها وتحولاتها المفصلية آنذاك.
فماذا عنيتُ بالغربال في هذا السياق؟ هو معنى شديد الخصوصية والارتباط بالحالة نفسها، حالة نفاد النسخ المطبوعة من الديوان تماماً، فحتى الأحبة في النادي خاطبتهم أكثر من مرة طالباً نسخة – نسخة واحدة – ودائماً يأتيني الجواب بأن جميع النسخ نفدت؛ فلولا هذا النفاد، وضياع المخطوط الأساس بحكم عدم استقراري في بلد أو مكان، لما اضطررتُ إلى البحث عن القصائد الخمسين عبر محركات البحث الإلكتروني التي سهّلت على الناس البحث في كل شيء وعن أي شيء، فبهذا البحث المستمر بين آن وآخر طيلة السنوات العشر الماضية اكتشفتُ أن ثمة غربالاً قد هزهز تلك القصائد حتى أسقط منها ما لا يستحق أن يظل متداولاً بين الناس، بينما احتفظ بعدد يقارب نصف عدد قصائد الديوان كنتُ أجدها منشورة في مواقع ومدونات حرص الفاعلون فيها على نقل تلك القصائد من ديوانها الورقيّ وكتابتها إلكترونياً لتُقرأ مجدداً.. سواء وضعوا اسم الشاعر أو لم يضعوه، فيكفيني أنهم قرّاء رأوا في القصيدة ما يجعلهم يبذلون جهداً إمّا في تصوير صفحاتها من الديوان أو في إعادة كتابتها مجدداً؛ وذلك يعني أن غربال النفاد قد حرص على بقائها!
لستُ أدري إن كنتُ استطعتُ إيصال الرؤية على خصوصيتها المتطابقة مع كثير من الحالات العامة في المجالات كلها، أم أن غربالاً آخر سيسقط مقالتي هذه عن الشأن الثقافيّ العام ويدخلها في دائرة البوح الذاتيّ..؟؟
فإذا كانت المسألة مجرد بوح ذاتيّ - أدبيّ حتماً - فسأضيف بأن قصيدة (سيف بن أعطى) الموقعة في العام 1997 وبعد عشر سنوات من كونها قصيدة أصبحت كتاباً للمداخل الأولى إلى الفصل الأول من (سيرتي الذاتية) وصدر عن دار الفارابي ببيروت عام 2007 كان تصديره بمطلع أحد مقاطع القصيدة – وهي طويلة – ولم أجدها كاملة في أيّ موقع أثناء نفاد نسخ (مقدّمة الكتاب الأخير) وهي إحدى قصائده التي، ربما، أسقطها غربالُ النفاد كما أتصوّره مما سيضطرني إلى إعادة النظر في القصيدة، وهل العنوان نفسه حين أصبح سيرة ذاتية أذاب النصّ الشعريّ حدَّ التلاشي وصار هو الحاضر وحده ككتاب؟!
أسئلة وتعجّبات ورؤى وتصوّرات مع كثير من الاحتمالات والتخمينات وجدتها تعمل في ذهنيتي ونفسيتي أثناء محاولة تفسير كيف أن قصائد تحضر في مواقع متعددة وتتناقلها وسائل نشر مختلفة بينما قصائد أخرى تختفي ولا يمكن الحصول عليها إلا بالعثور على المطبوعة التي نشرتها أول مرة وقد تكون صحيفة أو مجلة قد تعثر على الأعداد التي تحتوي تلك القصائد وقد تتعب في غربلة أرشيفك ولا تجدها أيضاً(!) في حين أن القصائد جميعها، المتداولة والمختفية، مصدرها الطبيعيّ ديوانٌ واحد؟!
وأختم هذه الحالة الممتزجة بالتساؤلات والتخمينات المنتهية بفرحة العثور على نسخة من الديوان، بمطلع (مرثية لغير عزاء) – إحدى القصائد التي كنتُ أجدها كثيراً بعد نفاد (مقدمة الكتاب الأخير) الذي حسبته آخر دواويني في حينه، ففقدته بعد نفاد نسخه حتى وجدتُ واحدة منها أخيراً!
(ستسطعُ نجمةٌ خلفَ الغمامةْ
سأخيطُ جرحيَ، بارتعاشةِ مبدعٍ
يأتي على شكلِ ابتسامةْ)!