أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: قَسَّمَ الإمامُ ابنُ حزمٍ رحمه الله تعالى نظريةَ المعرفةِ والعلمِ (؛ وهو لم يُسَمِّها بذلك، ولكنَّ ما ذكره جزءٌ منهما؛ وإنما سماها أوائلَ العقلِ)؛ فذكر من ذَيْنَكَ: أنَّ الكُلَّ أكْثَرُ من الجزء، وأنَّ من لم يُولَدْ قبلك فليس أكبرَ منك، ومن لم تتقدَّمْه فلم تُوجد قبله، وأنَّ نِصْفَيْ العدد مساويان لجميعه، وأنَّ كونَ الجسم الواحد في مكانين مختلفين في وقت واحد محال، وأنَّ كلَّ شيءٍ صَدَقْتَ في نفيه فإثباتُه كذبٌ، وإنْ كذبْتَ في نفيه فإثباتُه حقٌّ.. وأنَّ الحق لا يكونُ في الشيءِ وضِدِّه، وأنَّ كلَّ أقسامٍ أخرجها العقلُ بكلِّيَتِها تامةً إخراجاً صحيحاً، ولم يكنْ بدٌّ من أحدِها؛ فكذبتْ كلُّها حاشا واحداً: فإنَّ ذلك الواحدَ حقٌّ ضرورةً.. [انظر كتابَه (التقريبُ لحدِّ المنطق) ضمن رسائل ابن حزم 4/285]
قال أبو عبدالرحمن: هذه الأمثلةُ جعلها أبو محمد للتمييز، والتصرف، والفرقِ بين المشاهدات، وأحاول الآن تصنيفَها؛ فأمَّا الفرقُ بين المشاهَداتِ فهو معرفةٌ مثلُ الكلُّ أكثرُ من الجزء؛ وأما التمييز فالمثالُ الأخيرُ عن بطلان أقسامٍ وصحةِ واحدٍ منها بالضرورة؛ وأما التصرف فهو إطلاقُ الأحكام؛ وهو يشمل بقيةَ الأمثلةِ مثلِ الحكمِ بأنَّ كلَّ شيءٍ صَدَقَ النافي في نفيه فإثباتُه كذبٌ.. والواقع أنَّ كلَّ الأمثلةِ أحكامٌ عقلية فطرية سابقة يشهد لها ما يلحق من مشاهدةِ أعيانٍ من الوجود.. والقسم الثاني من أقسام المعرفة عند أبي محمد هو ما عرفه الإنسان بحسِّه المؤدِّي إلى النفس بتوسُّطِ العقلِ مثلِ معرفةِ العقلِ بأن النار حارة، وأنَّ الثلج بارد؛ وبالمقارنة بين أمثلة القسم الأول وأمثلة القسم الثاني: نجد أنَّ الأمثلةَ الأولى أحكامٌ وجودية عامة من حكمٍ بوجودٍ ونفيه، وحكمٍ بالأصغرِ والأكبرِ دون مقاديرَ معينةٍ، وحكمٍ بصدقٍ أو كذبٍ؛ وهو أمرٌ عامٌّ غيرُ محدَّدِ ولا مكيَّفٍ.. وأمثلةُ القسمِ الثاني حكمٌ في موجوداتٍ معيَّنةٍ مسماةٍ مُكَيَّفَةٍ؛ وهذان القسمان وصَفَهما أبو محمد أَنَّهُ لا يدري أحدٌ كيف وقعتْ له صحةُ معرفتِهِ بذلك، ولا كان بين أول أوقات فهمه وتمييزه وعودِ نفسِه إلى ابتداءِ ذِكْرِها وبين معرفتِه بصحة ما ذكرنا زمانٌ أصلاً لا طويلٌ ولا قصير، ولا قليل ولا كثير، ولا مهملة ألبتة.
قال أبو عبدالرحمن: يُلِحُّ أبو محمد رحمه الله تعالى على نفي الزمان ههنا؛ وليس هذا بصحيح؛ وله مناقشة في السبتية القادمة إنْ شاء الله تعالى.. وهذه البدهياتُ الكثيرةُ ترتدُّ إلى قانون واحد هو قانون (الشيءُ في نفسِه)، ويتفرع من هذا القانونِ قانونان عامَّان هما قانون التناقض، وقانون الثالث المرفوع أو الوسط المرفوع؛ وفي هذه التسميات لدى الفلاسفةِ تسامحٌ، وفيها نقصٌ؛ والمحقَّقُ أنَّ أساسَ المعرفةِ التطابقُ؛ وهو أنْ يكون ما عُرِف مطابقاً لما في تَصَوَّرَه العقلُ: يُحتَمل وجودُه وعدمُه، وما أمكن تصوُّرُه ممكن وجودُه؛ وذلك في المتخيَّلات، وما تحتَّمَ تصورُّه في العقل فوجوده حتميٌّ، وما اَمْتنع تصوُّره في العقل امتنع وجوده ؛ ذلك أن العقل مخلوق، وليس في الوجود إلا الخالِقُ والمخلوق، والله خلق العقلَ ليعرف ما أَذِن له بمعرفتِه من الموجودات مثلِ العلم بالموجود المغيَّب بالخبر الصادق، والعلمِ بصفات الموجود علماً بآثاره أو علماً بكيفيته.. لا معرفة للعقل غيرَ ذلك؛ لأنَّ عقولَ البشرِ لم تُثْبِتْ معرفةً غيرَ ذلك.
قال أبو عبدالرحمن: ورأيتُ مِن المعاصرين الأستاذَ (عبده فراج) إذْ حكَم بأنه حدث خلطٌ في قانون الذاتية [؛ يعني الشيءَ في نفسه] عند (لوك) و(لايبنتز)؛ لأنه عَبَّر في المنطق بلغة ميتافيزيقية بقوله ((إنَّ ما يكونُ يكونُ)).. أي يوجد؛ وكذلك يقول (لايبنتز): ((إن كل شيءٍ هو ما هو))؛ فأوهما بأن القانون ينفي التغيُّرَ.. وأثاروا بذلك اعتراضاتِ القائلين بأنَّ التغيُّرَ هو قانونْ الوجود.. [انظر كتابه (المنطق الواقعي) ص260.. وإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.
عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-