عبدالعزيز السماري
اعتادت الثقافة العربية أن تفرز مصطلحات واتجاهات ثقافية لوصف مراحلها السياسية، فمن اليقظة إلى الصحوة، ومن القومية إلى الأممية، ومن الوطنية إلى الطائفية، وتشترك أغلبها في عامل الهاجس السياسي، وتصل في بعض الأحيان إلى حد الانفجار، فالموضع العربي مسيس لدرجة التسمم، وهو ما يجعل من مسيرات وإعلانات مشاريع التنمية مجرد إعلانات على هامش صراع الأفكار المسيس.
فالأرقام لم تصل بعد إلى مقدار ما ينتجه الفرد العربي، ولكن تعود إلى بيع مصادر طبيعية، ثم صرفها على أفواه وعقول تعاني من الاضطراب السياسي، ولهذا اعتدت أن اختلف مع الخطاب الذي يرمي بالهم والغم والتخلف العربي على الخارج، فالأزمة لم تأت من خارج الحدود، ولكن من داخل الوضع العربي المتفجر.
ببساطة متناهية، نعيش في غابة من الصراعات الأيدولوجية وتضاد السلطات والتفسيرات والاتهامات، وقد كان تأسيس دولة إسرائيل في قلب العمق العربي بمثابة القشة التي حركت المياه الراكدة منذ قرون، فقد كان يختفي داخل محيط الركود العربي وحوش من الماضي التليد، وكان لهم الدور في إسقاط الحضارة العربية المستنيرة.
ولهذا كان ما يُطلق عليه باليقظة العربية ضد الغزو الخارجي مجرد شهر عسل في زمن التخلف والعنف، قبل أن تصحو وحوش السلطات المتضادة من سباتها الطويل، فخرج المارد المتطرف الطائفي من كهفه، وأعاد مشاهد الثأر والانتقام والتمثيل بالجاني أو أحفاده، وكانت ردة الفعل ملبدة بالعنف والإرهاب والتسلط. من الجانب الآخر.
كان المرض العربي المزمن هو الصراع بين أيدولوجيات الأقليات والأغلبيات، وكانت التهمة المتبادلة هي التآمر، فأهل السنة لازالوا يذكرون الطائفة الأخرى بسقوط بغداد، بينما يرفع الشيعة شعارات الثأر من قاتلي حفيد الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي ظل هذا الصراع المرير تحاول الأقليات الأخرى اللجوء إلى الخارج من أجل حمايتها من بطش صراع الأغلبيات.
في اتجاه آخر تعاني الأوطان أيضاً من صراع سلطوي وتضاد فئوي واتهامات للفئات الأخرى بالتآمر، ويبرز على السطح في الوقت الحالي صراع التفسيرات للمرجعية القانونية الشرعية، ويحاول أن يلبسه بعض المتزمتين تهمة التآمر الغربي من خلال عملائهم في الداخل، بينما هو في حقيقة الأمر صراع بين تفسيرات شفوية متعددة للمرجعية القانونية.
يساهم البعد الغيبي في إذكاء هذا الصراع، فكل يدعي وصل الله عز وجل، وأنه الممثل الشرعي الوحيد، و الأقرب لشرعه وأوامره ونواهيه، وهو ما يجعل من الساحة ميدان للصراع حول أحقية تمثيل الله عز وجل على وجه الأرض، ولعل هذه العبارة تفسر تلك الفرقة التي قصمت أوج الحضارة العربية في أيامها الأولى..
الغائب في الأكبر في غابة الصراع السلطوي المرير في المجتمع العربي هو وجود قوة عليا أو سلطة أعلى، وهو أن يكون هناك مجلس أو سلطة بشرية تكون لها اليد العليا في تقديم وفرض التشريعات العامة، كما أنهما تتحمل مسؤولية تقديم فلسفة الدولة وحفظ الحقوق العامة والخاصة، واعتبارها المنفعة التي يشترك فيها الجميع بسواسية.
يحتاج العقل العربي إلى عقل متفوق ليقوم بعملية التنظيف من سموم الصراع الأيدلولجي وتضاد التفسيرات، فقد عانى كثيراً من حالة التمزق العقلاني، وكان ثمنها ما يعيشه أغلب الشعوب العربية في تخلف وعنف وإرهاب وتسلط، ولا بديل عن فرض مبادئ عامة وتشريعات عليا تمنع تداول الأفكار المعلبة التي تخدم قضايا الصراع السياسي الداخلي. والله ولي التوفيق