إبراهيم عبدالله العمار
ذات يوم في إحدى جامعات برلين، أخذ الدكتور فرانز فون ليزت يحاضر عن علم الجريمة. ثم وقف طالب وعارض كلامه، وتناقشا، واشتدت حدة النقاش، ولما وصلت المجادلة لذروتها أخرج الطالب الغاضب مسدساً، فانقض عليه طالب آخر، ووسط الهرج والمرج انطلقت رصاصة من المسدس واشتعلت القاعة بالفوضى والمعمعة. حينها أسكتهم الدكتور فرانز وقال لهم: "كانت مجرد تجربة وهؤلاء كانوا ممثلين". بعدها قسم طلابه إلى أقسام: قسم طلب منهم أن يكتبوا تقريراً مفصلاً لما حدث، وقسم أخذ منهم هذا شفهياً، وقسم كتبوا التقرير بعد فترة قصيرة. كم تتوقع نسبة الصحة؟ الحدث حصل قبل قليل، لا شك أن كلهم سيتذكرون بدقة، صح؟ لا! تراوحت نسب الخطأ بين 26 إلى 80 %! كتب الطلاب أشياء لم تحدث قط ونسبوها للممثلين! أحداث هامة حصلت لكن الطلاب غفلوا عنها ولم يذكروها. نسبوا كلاماً لم يُقل لطلاب لم يقولوا أي كلمة!
هذه ليست حالة فردية خاصة بهؤلاء، هذه ظاهرة طبيعية لدى البشر كلهم، لدي ولديك. إن ذاكرتنا ليست مثل المسجل الذي يسجل بحياد ودقة كاملة، بل هي أمواج متخابطة من الصحة والخطأ. وضع العلماء نظرية عن الذاكرة تعتمد على مثل هذه التجارب، والنظرية هي أنه لا أحد منا يمكن أن يحتفظ في ذاكرته بمعظم التفاصيل التي نراها، ذلك أن أخطاء الذاكرة تشترك في عامل معين: كلها تنتج من عمليات ذهنية يفعلها المخ ليملأ الفراغات. ركّز على الكلمتين الأخيرتين: ذاكرتك تملأ الفراغات. العالم الذي وضع هذه النظرية (هيوغو مونستربيرغ) تعرض بيته للسرقة، وكان هيوغو ذا ذاكرةٍ شديدة القوة، ففي 18 سنة ألقى أكثر من 3000 محاضرة ولم يستعن قط بشيء مكتوب، بل كلها من ذاكرته الجبارة. عندما أتى الشرطة أدلى في المحكمة بشهادته عن تفاصيل مسرح الجريمة، مثل خط شمع سال من شمعة في الطابق الثاني، وساعة كبيرة لفّها السارق في ورقة لكن نسيها على المنضدة، وآثار تشير إلى أن السارق دخل من القبو. ألقى بكل هذه الأقوال بثقة تامة، لكن...كلها كانت خاطئة! كان قد سمع الشرطة تتكلم عن سارق دخل من نافذة القبو وبدون شعوره أدرج هذا في ذاكرته، وهذا لم يكن له دليل، بل إن الشرطة اكتشفت فيما بعد أن السارق دخل بعد أن أزال قفل الباب الأمامي. أما الساعة فكانت ملفوفة ليس في ورق، بل في غطاء المائدة. أما آثار الشمع التي رأها في الدور الثاني فكانت فعلياً أعلى من هذا.. كانت في السطح.
هذا وهو صاحب الذاكرة المدهشة! لا تثق في ذاكرة الناس إذا أصروا على وصف حدثٍ ما، فهي تخطئ وتصيب. بل قبل ذلك.. لا تثق في ذاكرتك أنت!