د. صالح بكر الطيار
دائمًا ما تمنح الغربة جمال الصداقة ومتانة العلاقة الأخوية التي تربطني بالعديد من إخواني وأبناء بلدي.. أجد في أرواحهم الوطنية الحقة، ودومًا ما نتحد جميعًا في عشق الوطن الذي كلما بعدنا عنه زاد شوقنا إليه.. ذلك الكيان الذي يحفنا باسمه وسمعته أينما كنا. في باريس عرفتُ الدكتور زياد الدريس أخًا وصديقًا منذ أعوام عديدة، لمست فيه الشخصية الثقافية المتميزة التي اتسمت بالنبل والفضل.. وهنا، وفي هذا المساحة، أسترجع ما قدمه هذا الإنسان النبيل من جهود مباركة، وما سجله عندما عمل مندوبًا دائمًا للمملكة في منظمة اليونسكو. ولأني في باريس منذ عقود فإنني أسجِّل ذلك كشاهد عيان، رأيت ولمست ما انعكس من قيم ثقافية، تم زرعها في باريس، وتوزعت إلى باقي العالم، ورسخت مكانة وطني الحبيب ثقافيًّا في مجالات عدة. فعندما قدم الدريس كانت المجالات الثقافية ناشئة، وبيئتها تحتاج إلى تنويع، وإلى عطاء رجل بفكره وطموحه؛ فانتعشت الثقافة السعودية، وبات لها مكانها ومكانتها الكبيرة في اليونسكو، تلك المنظمة الكبيرة التي تعكس معدل القوة الثقافية الدولية. ولا أنسى أن للدريس دورًا فاعلاً في تسجيل بعض المواقع والفنون السعودية ضمن قائمة التراث العالمي؛ فكان تسجيل هذه المواقع بمنزلة تعريف للتراث أمام العالم؛ الأمر الذي أسهم في نقل الثقافة إلى الخارج؛ ما جعل الوفود الخارجية تبحث وتسأل عن وتوثق التراث السعودي في الخارج، بل تدرسه وتضعه ضمن أنشطة سفاراتها ومهام بعثاتها الدولية.. ودوره في تفعيل اللغة العربية؛ ما جعلها تنافس اللغات الأخرى عالميًّا، وباتت الثالثة تحت مظلة اليونسكو.. وجهوده في برنامج الملك عبدالله لتعزيز ثقافة الحوار والسلام، وإسهاماته في الكراسي الأكاديمية بين الجامعات السعودية واليونسكو، وضم جمعيات لليونسكو، مثل جمعية حرفة والجمعية السعودية للمحافظة على التراث؛ ما جعل المملكة - وفق هذه الجهود - تكون من الدول العشر الأكثر نفوذًا في اليونسكو، وتعد العربية والإسلامية الوحيدة في هذا الترتيب.
إنها وقفة عرفان أسطرها لهذا الشخص متمنيًا أن تسير مخرجات وهوية ثقافتنا وتراثنا الأصيل إلى العالمية، وأن تتطور تلك الأسس والقواعد التي قام بها هذا المبدع.. في حين أنني بحكم عملي وتشربي لكل إيجابيات المنتج الثقافي، والإيجابيات التي لمسناها نحن السعوديين في أوروبا، ونسمع بها في شتى أصقاع العالم، وبما ألمسه من ثناءات في اليونسكو على وطني وتراثه، فإني أسجل الامتنان لهذا المسؤول والمثقف الذي تعامل مع مهامه تعاملاً مؤسساتيًّا، ووظَّف إبداعه لخدمة الثقافة السعودية والتراث الوطني، واستغل وقته ومهامه والمقومات المتوافرة في خلق مناخات من التقدير للثقافة والقيم والمقدرات الأدبية السعودية في منظمة اليونسكو، وساهم في توفير منظومة من العمل المستقبلي الذي سيعود على الوطن ومكانته الثقافية لأعوام مقبلة.
ونحن أمام رؤية سعودية واعدة، وبرنامج تحول وطني، فإن الثقافة من أهم مقومات هذه الرؤية؛ فيها نسمو إلى أن نكون أنموذجًا للعالم الأول، وعلينا أن نستفيد مما تقوم به شخصيات ثقافية متميزة، مثل زياد الدريس وآخرين؛ وذلك لنقل حضارتنا وثقافتنا وتاريخنا وإرثنا وتراثنا إلى العالم أجمع، وعلينا أن نعي ونستفيد من النشاطات والإنجازات التي سجلها زياد الدريس في منظمة اليونسكو، وأن نسعى جاهدين.. والمهمة تقع أكثر على ممثلي الوطن في الخارج أن يحتذوا بما قام به، ويطوروا ما أسس وأعد له من أفكار وتخطيط واستراتيجيات.. أدعو الله له بالتوفيق والسداد في موقعه الجديد من مواقع المسؤولية؛ ليكمل مسيرة العطاء لهذا الوطن المعطاء.