رقية سليمان الهويريني
التقيت بالدكتورة فاتنة أمين شاكر في أمسية لتكريمها، حيث استعرضت سيرتها الذاتية وقسمتها لعدة محطات لم تمثّل نفسها بالبطلة رغم أنها كذلك! ولكنها استحضرت صورة كل إنسان وزمان ومكان ساهم في تشكيل وعيها ووجدانها، وهي بذلك انعتقت من أَسْرِ الأنانية وصهرت (الأنا) فأظهرت جوهره.
وكان هدفها إشعال قناديل الأمل في النفوس، حيث بدأت سيرتها بمولدها في مدينة جدة التي تحن لحواريها وأزقتها الضيِّقة، ثم مرّت على نشأتها في الطائف ووصفتها ببدايات التأمل في الظواهر الطبيعية وتأثير الخضرة والبساتين ومنظر سنابل القمح وشجر النبق، وهناك تلقت تعليمها في وقت يقتصر فيه التعليم على الذكور، وانتقلت بنا للحظة انضمامها لجامعة القاهرة عام 1957م، حيث بدأت تتبلور شخصيتها في محيط تعليم مختلط منحها الحرية، وحمّلها المسؤولية، فتعلّمت قيمة احترام النفس. ولم يخلُ الأمر من تحريض والديها عليها من قِبل المعارضين للفكر الجديد، ولكنهما كانا المحضن الآمن والمدافع عنها. ثم عادت لموطنها وواجهت الواقع الاجتماعي بعد الدراسة والفكر والأحلام!
وكان هاجسها وطناً تساهم المرأة في صنع مستقبله بجانب الرجل. فكانت أولَ صوت نسائي يقدّم برنامجاً إذاعياً للمرأة والأسرة، مع مساهمتها في الكتابة بالصحف في مكان كانت مدارس البنات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة مما جعلها تسافر لأمريكا لدراسة علم الاجتماع بغية فهم المجتمع ومكوناته، فكانت رسالتها تُعنى بإشكاليات التحديث في الدول النامية بالتركيز على بلدها كحالة دراسية تختبر فيها فرضياتها. وهناك اكتشفت المتعة الحقيقية لعملية التعلُّم بكل أبعادها، ولكنها ما زالت (عين على الكتاب وعين على بنات الوطن)، حيث تختزن في وعيها حاجة الوطن لقيام نهضة تنموية. إلا أنها لمست في رؤيتها لمسيرة الوطن أنها قد تكون سابقة لواقع غير مستعد بعد، أو غير مستوعب لمتطلبات التحديث أو الإصلاح. واكتشفت أن شهادة الدكتوراه هي مجرد بداية للمنهج والاستعداد لأن تصبح طالبة علم في مسيرة الحياة المستقبلة.
وبعد عودتها اعترضتها مرحلة الصحوة التي حاربت المتعلمين في الخارج، حيث يرى رموزها أن تعليم المرأة شرٌّ على الدين والمجتمع وانفلتوا يكفِّرون من يختلف عنهم مظهراً وفكراً ويطعنون في دينه ويشوّهون سمعته، فتحطّم حلمها بالتخطيط ورسم مسيرة المجتمع، واغتيلت نهضة علمية مرتقبة ومؤمل فيها، فانعكست الموازين وانقلبت المعايير.
ومن لطف الله بها أنها لم تسقط في بئر الشك، وظلت عينها مركزة على الهدف، وتجلّت لها قيمة الثبات والصمود والإيمان والصبر وحسن الظن بالله. وتعلّمت أن الوطن الحقيقي هو وطن واحد، وهو ما وسعه قلب العبد.
وتفشي الدكتورة فاتنة سرَّ حيويتها وشبابها الدائم بأنه بسبب الحب واحتضان الأحبة وعدم حمل الأضغان، والتأمل في ملكوت الله.