رمضان جريدي العنزي
نحن في زمن الألوان تختلط فيه، والخطوط فيه تتشابك، والمواقف تتبدل، والمبادئ تتغيّر بشكل لحظوي، العهود ما عادت عهوداً، ولا المواثيق مواثيق، ولا الأمانات أمانات، ولا كلام الصدق صدق، الظلام صار صباحاً، والصبح صار ظلاماً، وانبثاق الفجر صار غسقاً، صديق الأمس صار عدو اليوم، وعدو الأمس صار صديق اليوم، ما عادة القيثارة قيثارة، ولا عزفها صار جميلاً، حتى الفراشات الحالمة صارت تشبه العقارب المخيفة، الثعالب صارت ذئاباً، والذئاب صارت ثعالب، ودودة القز ما عادت تصنع خيوط الحرير، الرذاذ صار جمراً، وثمار الصدق جفت، والعداوات أسرجت، ما عاد القمح قمحاً، ولا السنبلة تلد سنابل، وما عاد للعسل رحيقاً، والحديقة البهية جفت ورودها، البهت أرخى حباله، ولغة الكذب علت، الغوى والغواية والاستغواء والتيه تمارس وفق فجاجة، والحماقة نماء رتمها، صار للأمكنة قلق، وللفضاء قلق، والمجانين والفوضويون والحكاؤون وصغار العقل والفقه والمنطق صاروا يتوالدون كنبات الفطر في الأمكنة الخربة، يحاولون أن يخرجوا من شرنقاتهم الموبوءة، لتخرج معهم وباءاتهم المزلزلة، يحاولون أن يجيدوا بخيالات التعبير في مسارحهم العتيقة، لكنهم لا يجيدون التنظير والبث والبعث والمعرفة، لا يعرفون الترسيمات الواقعية، ولا الأفق المفتوح الذي يغذي قيم التعبير والضرورة والتكوين، يسبحون في فضاء مشبع بالرماد والقتامة، والحركة المنفلتة من عقال العقل، لهم ضجيج وصخب وتربص، ويجلسون على التخوم المتحركة، لهم قلق وترقب ونزق، خيولهم عرجاء كسيحة، وسيوفهم مثلومة، معارضون للإبداع والتفوق، ومناصرون للموت والجهل والتنطع والعجز والنكوص، وجوههم صارت أكثر تقاطعاً مع الحقيقة، لهم جدلية واقع، ومنطق خائب، ومكون غير مألوف، وقيم غير نقية ولا بهية، ما عندهم ثراء لغة، ولا ثيمات، ولا أساليب بلاغة، وسرد النص عندهم واهن، يبحثون عن الخلود والأسطورة، لكنهم ما عرفوا بأنهم قرابين لأفعالهم المشينة، حتى المنظرون طويلاً في الزهد، والقائلون بأن الحياة عابرة لا تستحق الأضواء، ولا البهرجة، صاروا يلبسون السندس والحرير وحلل النعم ويسكنون القصور الفاخرة، الحكائون النماقون حكوا لنا طويلاً، بصور نافرة في اللون وفي الشكل والمحتوى، تماهوا علينا، كسروا حلمنا، أعطبوا فرحنا، وأنهكونا بالإعياء والحزن والتعب، رسموا الدنيا لنا خرابة، عشاً عتيقاً، ودالية مريضة، حتى أفقنا من نومنا الطويل، لنرى بأنهم بعيم الحياة يرفلون، وفي حضنها الدافئ ينامون، ومن مائها السلسبيل يشربون، ويجيدون بامتياز مناغاة الوردة والبلبل والروض الأخضر والعصفور الصغير، ذلكم هم المتقلبون، أقوالهم ومواقفهم متلوّنة متبدّلة متناقضة متغيّرة عابرة رقيقة، لهم نرجسية عالية، وذاتية مفرطة، باختصار شديد: هم يشبهون الحديدة، ولم يكونوا يوماً يشبهون الذهب.