عبد الرحمن بن محمد السدحان
* طُلبَ مني مرةً أن (أجتهد) بتعريف موجز للثقافة والمثقف، فترددتُ كثيراً في الرد توقعاً للفشل في إنجاز المهمة قبل أن تبدأَ، مُعلِّلاً ذلك بأن كثيرين قبلي حاولوا طرحَ هذا التعريف، بعضُهم أدرك شيئاً من النجاح، وبعضهم لم يتم المهمة، وعاد أدراجه من حيث بدأ، وفريقٌ ثالث نَجا بنفسه وسلك (درب النجاة) هَرَباً من الموقف!
* * *
* اليوم.. أطرق (باب المحاولة) مع مَنْ طرقه من قبل، فإنْ أفلحتُ، فتوفيقٌ من ربّ العالمين، وإن أخفقتُ فلسْتُ خيْراً ممن سبقني إلى ذلك، ويبقَى لي عزاءٌ واحد أُسليّ به النفسَ، وهو أنني منحتُ عقلي وقلمي فرصةً للمحاولة (لأَتعلّم) منها وعنها، وذاك أضعف الإيمان!
* * *
* أقول بادئ الأمر إنني لا أعلمُ علمَ اليقين إن كان هناك تعريف (مانع قاطع) للمفردتين (الثقافة والمثقف) في ثقافة هذا الجيل على الأقلّ، بل لا أتمنّى ذلك كيْلا يزعمنَ أحدٌ أن قَمَر الاجتهاد قد غاب، أو أنَّ مدادَ الأقلام قد نَضَب!
* * *
* إذن، فلندعْ بابَ الاجتهاد (مُوارباً) لأتسلّلَ من خلاله بالقول التالي: الثقافة حَصادٌ تراكُمِيُّ لمنظومة معقدة من المعارف والقيم والمواقف والآراء وأنماط التفكير والشعور، تتفاعل مجتمعةً ومتفرقةً في عقل ووجدان امرئٍ مَا لتُشكِّلَ منه (مشْرُوع مثقَّف)، ثم يأتي بعد ذلك (تراكمُ) العطاء والخبرة في هذا المجال أو ذاك من التفكير والمشاعر والممارسة لهما، بقوالبَ عدّة لتَتَشكّلْ بذلك الولادةُ الحقيقيةُ للمثقَّف!
* * *
* وانطلاقاً من هذه الرؤية الاجتهادية المتواضعة، التي لا أعتقد أنها بريئة من القُصُور، أقول إنّ المثقفَ هو المحصلة النهائية لتفاعل العناصر آنفة الذِّكر مجتمعةً، وبعبَارة أدقّ هي (الصلصال) الذي يتشكَّل منه وبه المثقف!
* * *
* وبتَعبير مغاير، المثقفُ ليسَ (دائرة معارف) له في كل بحر صيد، وفي كل بستان ثمر، لكنه منظُومةٌ من الأفعال والأقوال تُعرِّف به ويُعرُّفُ بها: كيف؟
* هو ذلك الذي إذا قرأَ فَهِم!
* وإذا حدّثَ غيره، أفْهَمَ!
* وإذا حَاوره غيرُه استمع!
* وإذا اختلف مع ذلك الغير أنْصت، ثم مارس الحرية المسؤولة في الردِّ عليه، بلا عُلوٍّ ولا غلوٍّ ولا أذَى!
* وهو الذي إذا استمر اختلافُه في الرأي مع آخر، لم يحملْ عليه جَهْراً أو يحمّلْه وِزْراً أو يُضْمر له شراً!
* * *
* باختصار شديد: الثقافة سلوكٌ ومعاملةٌ، والمثقفُ (فِعْل) و(فاعل) لذلك!
* * *
* وأختم هذا الحديثَ بما ودَّعت به حديثاً سابقاً مماثلاً، فأقول إنّ التعايشَ الفكري مع (الآخر)، واحدٌ من أهمّ مؤشِّرات النُّضج الثقافي في أيّ زمان أو مكان، غير أن الوصول إلى هذه المرحلة من النضج المؤطر بثقة لا يهزُّها الاختلافُ، ولا تَهْزِمُها تعدّدية الرأي، يتطلب إصلاحاتٍ أوليةً في بنيتنا التربوية، يتَقَاسمُها البيتُّ والمدرسةُ والجامعةُ، لا بدَّ أن (ندرِّب) ناشئتَنا على الحوار، أدباً وممارسةً، وأن ننقّيَ أذهانَهم من نَزْعةِ (الفُحُولة) في طرح الرأي والإصْرار عليه، وتغييب أو تهميش الرأي الآخر وتحقيقُ ذلك لا بد أن يمرَّ عبْر بوّابة التربية، وهو أمرٌ لا يتم بين عشية وضُحَاها، والغَدُ للتربية، فهيَ حَجَرُ الأسَاس في إعادة بناء خطابنا الفكري والثقافي وتشكيلهِ تشكيلاً حضارياً وإنسانياً نمارس من خلاله حضُورَنا الدائمَ والفَاعلَ بين الأنام!