فهد بن أحمد الصالح
يشكِّل المتقاعدون ما يزيد على 5 % من التعداد السكاني الأخير؛ إذ تجاوزا في النظامين 1.1 مليون متقاعد من 21 مليون نسمة لعام 2017 - 1437. والزيادة تقارب 100 ألف متقاعد سنويًّا تقاعدًا نظاميًّا أو مبكرًا. وهو عدد لا يستهان به إذا كان معطلاً أو غير مؤثر في الحياة الاجتماعية، وكذلك غير منتج في التنمية الاقتصادية أو في الناتج المحلي. وعلى العكس فإنه مرحبًا به إذا كان مؤثرًا وذا عطاء مستمر، يتوافق مع العمر والخبرة والقدرة، وشجعت فيه قبل التقاعد روح المسؤولية الاجتماعية. والإجابة هي أنه لا شك لدينا جميعًا حول واقع المتقاعد، وعدم استثمار جهده ووقته وكذلك خبرته التي أنفقت عليها الدولة الكثير، وهذا مشاهد من قِبل منظومة القطاعات الثلاثة (العام والخاص والأهلي). وكذلك فالمتقاعد نفسه ربما لم يوفَّق في نظرة عامة إلى استثمار نفسه بعد تقاعده إلا في مزيد من الراحة والفراغ فقط، وكأنه ينتظر الأجل المحتوم؛ فتجده كالشجر يموت واقفًا قبل دنو أجله، وهذا في الغالب والنادر لا حكم له، ولم يستفد المجتمع إلا من قليل من المتقاعدين, خاصة أن حالة من التبرم والتذمر وعدم الرضاء يخرج بها الأغلب من المتقاعدين، وتجد العطاء قليلاً، والدافعية لزكاة العمر والخبرة في درجات متدنية، خاصة لمن هم أصحاب خبرة وتأهيل وتجارب حقيقية مثمرة.
بهذا الأمر وتلك النظرة، وبعد برنامج التحول 2020 ورؤية الوطن 2030، حري بنا أن نعيد قراءة المشهد من جديد، وكيف سيكون عليه الحال الذي سيصنعه المتقاعد أولاً قبل أن يصنع له، ويصبح متلقيًا بدلاً من أن يكون فاعلاً مؤثرًا.. كيف نحقق ما ذكره سمو ولي ولي العهد رئيس مجلس الاقتصاد والتنمية عندما قال «لسنا قلقين على مستقبل المملكة، بل نتطلع إلى مستقبل أكثر إشراقًا، نحن قادرون على أن نصنعه - بعون الله - بثرواتها البشرية والطبيعية والمكتسبة التي أنعم الله بها عليها. لن ننظر إلى ما قد فقدناه أو نفقده بالأمس أو اليوم، بل علينا أن نتوجه دومًا إلى الأمام». وهل المناسب للمتقاعد أن يبقى على أحلام ومتطلبات واحتياجات رفعت عنه أو له قبل أكثر من عقد من الزمان، واتضح أن الكثير منها لا يمكن تحقيقه في الأصل، ولم تحققه أي دولة لمتقاعديها إلا إن كانت ضوابط التقاعد في الأصل مختلفة لديهم؟ وهل الإصرار على ذلك مشجع للمتقاعد أم محبط له في ظل تغير الظروف والمعطيات؟ فاليوم الفرصة أمام المتقاعد ليكون شريك تنمية حقيقيًّا فاعلاً، يفيد ويستفيد، يعطي بصدق؛ لينعم بالاستقرار، ويأخذ المزيد من التمكين التنموي والمعيشي والمجتمعي؛ لأنه في السابق لم يطلب مشاركته، وربما لم يرحب في القطاعات التي تقاعد عنها باستثمار خبرته، وإعادة تدويرها لكي يكون مستشارًا متعاقدًا أو متطوعًا، بل ربما في الكثير من الحالات إنهم يتمنون فراق المتقاعد قبل التقاعد، واليوم يقال له بعد أن أصبح المواطن حجر الزاوية (إن لدينا قدرات سنقوم بمضاعفة دورها وزيادة إسهامها في صناعة المستقبل).
والشيء المفرح الذي يطلبه المتقاعد أو نطالب به للمتقاعد أن جميع مصالح الدولة أطلقت مبادرات لبرنامج التحول 2020، وكذلك أهداف ومحاور لتحقيق رؤية 2030، فيما عدا الجهات المعنية بأمر المتقاعد، وهما مصلحة معاشات التقاعد والتأمينات الاجتماعية, بل إنها ساهمت في قلق المتقاعد على مستقبله والعجز الذي سيطول صناديقهم التي يرون بقية مستقبلهم ومستقبل أسرهم فيها. وأشارت إحدى الشركات الاستشارية إلى أن متوسط الأعمال التقاعدية يزداد، وربما يصل إلى 15 % من عدد السكان، وهذا يعني أنه سيأخذ 15 % من ميزان المدفوعات، وأن الصندوقين سيكونان عاجزَين عن الوفاء برواتب المتقاعدين واستحقاقاتهم، وإن كان هذا مضمونًا من الدولة - أيدها الله -. وأشارت إلى أن ثمة تحركًا حول دراسة هذا الملف بصورة مختلفة ورؤية جديدة وضوابط - لا شك - ستكون مختلفة، سواء من ناحية العمر التقاعدي أو ضوابط التقاعد المبكر وتصفية الاستحقاق، أو حتى في النسبة المستقطعة من راتب المتقاعد في النظامين, ولكن هذا كله لم يغير سير العجلة التي يسير بها ملف المتقاعدين أو توجهات الصندوقين العزيزين, إضافة إلى بطء الاستجابة مع ما يطرح هنا وهناك من آراء وخلق مبادرات وإعادة النظر في أسلوب الاستثمارات وضعف عائدات خطوط الاستثمار التي تنتهجها.
لن نتحدث عن الجانب الرسمي في مبادرات التحول الوطني 2020 أو الخطط التنفيذية لتحقيق رؤية الوطن 2030؛ لأن ذلك سيتولاه مجلس الاقتصاد والتنمية، ويلزم به، ولكن ما سنشير إليه هو ما يخص مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني التي تعنى بأمر المتقاعدين ومستقبلهم، وهي الجمعية الوطنية للمتقاعدين التي يرى المتقاعد والموظف أن المفترض أن تكون سيدة المؤسسات الأهلية ورائدة العمل التنموي التطوعي التي يفترض أنها تترجم أو تساهم بفاعلية في تحقيق أحد أهم المحاور في الرؤية، وهو رفع عدد المتطوعين من 11 ألفًا إلى مليون متطوع، وإن لم تنجح في تحقيق ذلك فلن تنجح في غيره؛ لأن درجة التطوع وثقافة المسؤولية الاجتماعية تكون مزدهرة عند بلوغ التقاعد بل إن المتقاعد يعد العدة لتقاعده ليتطوع في خدمة الآخرين، ويزكي خبرته وتأهيله، ويعطي مجتمعه تجربته بكل المحبة والصدق. ثم أين التركيز على الجانب الذي يطمح إليه المتقاعد في إطلاق مبادرات لجوانب الترفيه والثقافة التي ركزت عليها الرؤية، وكذلك رفع مستوى الادخار للفرد والحاجة إلى برامج مبتكرة تناسب كل المستويات المعيشية؟ وأين ترى الجمعية نفسها في إعادة استثمار الكفاءات القادرة على العطاء مثلما ورد في الكثير من محاور الرؤية؛ ليساهموا في جعلها واقعًا للأجيال المتعاقبة.
فالجمعية اجتُزت وذابت بعد دورتها الأولى، وتحولت خلال سنواتها الأخيرة من جمعية أهل الخبرات إلى جمعية أهل الحاجات؛ فأصبحت جمعية فقيرة في رسالتها وأهدافها وطموحاتها؛ لذا فلم تكن جمعية جاذبة، واقتصرت عضويتها على أقل من 1 % من المتقاعدين دون أن يحرك هذا الرقم في مجالس إداراتها المتعاقبة وإداراتها التنفيذية أي اهتمام أو إعادة التفكير في واقعها, واقتصرت تلك السنوات على المتاجرة باسمها وكسب المزيد من الحضور الإعلامي والمجتمعي دون أي فائدة يجنيها المتقاعد، بل أصبح المتقاعد - وهو العضو العامل فيها، ومن خلال رسم الاشتراكات - هو الذي يدفع مرتبات منسوبيها ومصاريفها التشغيلية، ولولا المكرمات الملكية المتعاقبة وتبرعات أصحاب السمو لأعلنت إفلاسها منذ سنوات, وقيدت الإنجازات بتصريحات متباينة عن الموقف تجاه المطالبات التي رفعت في دورتها الأولى للمقام السامي، وكذلك تخفيضات غير حقيقية سيحصل عليها المتقاعد، وهي وإن كان المتقاعد يرى أن له الحق فيها إلا أن تطبيقها ليس بالأمر السهل؛ فتكاليف تلك المطالبات باهظة, ولم تفلح مجالس إداراتها أن تعمل على تجزئة تلك المطالب؛ فيؤخذ الممكن، ويؤجل غير الممكن دون الحاجة إلى التعنت الذي أضاع المهم والأهم والتكميلي، وتبخرت أحلام المتقاعدين.
إن على الجمعية اليوم برسالتها ورؤيتها وأهدافها وحتى أسلوب إدارتها أن تواكب مسيرة التنمية الاجتماعية التي حولت الوزارة بالكامل من الرعوية للجمعيات إلى التنموية لها، ومن الضمان للمستفيد إلى الأمان له عن طريق فرص العمل وتوطين الوظائف؛ ولهذا كيف ستتحول من الاحتياج إلى الإنتاج دون أن تتوازى اهتمامات الجمعية مع تلك الرسائل الداعية إلى تنوع العطاء واستثمار فرص الإنتاج.. وواقع الجمعية مع مجلسها المؤقت المعين ليس بأفضل حالاً مع مجلسها المنتخب بالتكتل، والخاسر هو المتقاعد الحالي والقادم بالرغم من أن معالي الوزير الأسبق قد فتح الباب على مصراعيه للتطوير والتحديث وبناء خطة استراتيجية تستوعب جميع المتقاعدين السابقين والحاليين، وتبني للقادمين مستقبلاً تقاعديًّا يفرحهم. وحيّد المجلس وربما بتأثير لم يفهم القصد منه جهود المخلصين من المتقاعدين من أساتذة الجامعة والقياديين وأعضاء مجلس الشورى.
ولعلنا اليوم على أعتاب فجر جديد للمتقاعد، يتواكب مع برنامج التحول والرؤية الوطنية، وهو فتح باب الترشيح لمجلس إدارة منتخب للفروع التي واكبت نظام المناطق، وقصرت على 13 فرعًا. ويمثل رئيس الفرع المنتخب منطقته في مجلس الإدارة بالرغم من التحفظ على المساواة بين منطقة بها 50 % من المتقاعدين ومنطقة بها 1 % منهم. وستنتهي تلك الولادة المتعسرة في مطلع شهر شعبان القادم وإلى عصر جديد من طموحات المتقاعد الذي يأمل في مستقبل زاهر له ولأكثر من مليون من زملائه الآخرين؛ لأن العمر مفتوح، والجميع يعلم أن سنوات العطاء تتراجع مع تقدم العمر, وسيبقى ذلك التطلع لعموم المتقاعدين مربوطًا بضوابط الترشح وعدم تجاوز المرشح 65 عامًا؛ ليكون قادرًا على العطاء, وكذلك التأهيل العلمي شرط في تقديم منتج تقاعدي مؤثر, والاهتمام بالسيرة الذاتية للمرشح وسجله المجتمعي والسلوكي وحتى المعرفي، وهذا له دور رئيسي في نجاح الترشيح؛ وبالتالي نجاح المجلس إذا كان فريق العمل ذا تأهيل وعطاء وإيثار وحتى قبول متبادل بدلاً من التنافر الذي واكب الدورتين الثانية والثالثة، وطويت صفحاتها دون عطاء ملموس أو قيمة مضافة للمتقاعد, ولكن ندب الإنسان إلى التفاؤل، خاصة مع هذا العصر الجديد بكل مقوماته، ولا بد أن يكون ثمة أثر إيجابي في ظل الاهتمام والاستراتيجية الجديدة لوزارة العمل والتنمية الاجتماعية التي أصدرت نظامًا ولائحة تفسيرية، استشارت فيها جميع المعنيين بالعمل الخيري والعامة والمهتمين كأول قرار مجتمعي عند إعداد لوائح تنظيمية أو تفسيرية وبضوابط عملية.
إن المستقبل الذي نتطلع إلى أن يكون واعدًا لهذه الجمعية سيجعل المهمة عليها ليست سهلة؛ لأنها تحتاج إلى إعادة بناء الهوية من جديد، ويعيدها لدورتها الأولى مع التجديد في رسالتها وأهدافها ورؤيتها، وضرورة بناء خطة استراتيجية لها، يشارك فيها المتقاعد نفسه في ورش عمل أو جلسات عصف ذهني، وتترجم تلك الأفكار والتطلعات إلى خطة استراتيجية وخطط تنفيذية. كما أن على مرشحي مجلس الإدارة أن يفعلوا لجان العمل، ويضعوا مؤشرات أداء رقمية، يمكن قياسها ومعرفة أثرها على المتقاعد، مع تقوية الفروع ودعمها؛ لأنها الأذرع الحقيقية لمركزها الرئيسي، والعمل على فتح حسابات مستقلة لها؛ حتى تتولى الصرف على نفسها وتنمية مواردها, والعمل على نقل الجمعية من الاستجداء إلى العطاء؛ لأن هذه الصفة لازمتها كثيرًا، وعطلت حركتها، وساهمت في تواضع قيمتها في المجتمع، ونفرت القادرين على استمرار العطاء منها؛ لأنهم فهموا أنها لم تخصص لهم, مع العمل على خلق مبادرات ذات قيمة معنوية ومادية للمتقاعد، تتواكب مع برنامج التحول الوطني وأهداف ومحاور الرؤية الشابة؛ كي يكون المتقاعد جزءًا رئيسيًّا، يعتمد عليه في مستقبل البلاد وخططها التنموية، واعتمادها بشكل كامل على تفاعل المواطن الذي تراهن الدولة - أيدها الله - على فاعليته وهمته وقدرته على العطاء ووطنيته.
ختامًا، إننا نقدر الدور الذي قدمته الوزارة في اعتماد الانتخاب بدل التعيين في الفروع، الذي كان ورقة للمجالس السابقة في خلق التبعية، وكان جزءًا رئيسًا في ضعف منتجاتها. كما نستودع الجمعية وهموم المتقاعدين مجالس إدارتها التنفيذية في مناطقها والمركز الرئيسي التنسيقي والاستراتيجي، ونستحلفهم بالله أن لا يتقدم لعضويتها ويرشح نفسه لمجلسها إلا من يقدم مصلحة الآخر على مصلحته, وأن المشغول أو البعيد من الأعضاء الفاعلين عن هموم المتقاعدين معذور إن لم يتقدم؛ كي لا يأخذ محل مَن يملك الوقت والقدرة, ولا يكلف المشغول الجمعية مصاريف تنقلاته دون أن يكون له أثر في مسيرتها، أو أنه لا يملك رؤية لمستقبلها طالما أنه لا يحمل روح الإيثار فيما بقي له من عمره الذي كتبه الله له أن يبقيه صاحب عطاء وبصمة. كما أننا من باب الأمانة المهنية ومصلحة المتقاعد نتطلع إلى أن لا يُمنح الصوت إلا لمن يحمل برنامجًا حقيقيًّا، يمكنه من تحقيق خدمة للمتقاعد حتى وإن كان التصويت إلكترونيًّا مثلما تراه الوزارة، وترك التكتلات التي أفسدت روح الجمعية وعطاءاتها طيلة الفترة الماضية فيما عدا الدورة الأولى تحديدًا، فيكفى الجمعية اثنا عشر عامًا قد مضت من عمرها المديد دون أن تحقق للمتقاعد شيئًا يحمده لنفسه أو يحمده للآخرين أن حققوه له. وأخيرًا نستنهض همة معالي وزير العمل والتنمية الاجتماعية وفريق عمله أن يرعوا هذه الجمعية رعاية خاصة؛ فقد ترهلت، وثقل دوران عجلتها بالرغم من خبرات المتقاعدين الذين بنوا نهضة البلاد، وذادوا عن حماها، وأمَّنوا - بعد الله - استقرارها.