د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
يبدو أن القيادات التنفيذية هي من تلتهم خريطة النقاش المحتدم في عصرنا الحاضر.
وأدلف إلى خريطة القيادة، وأنسج سطوري عن حراك القادة في بعض المؤسسات وخاصة الخدمية منها، وحيث تعلمون أن لكل مؤسسة قانونها وثقافتها ورؤاها وأهدافها؛ فقد كانت الجدران أمامي مركبة؛ ولكني حاولتُ أن أخاتل بعض صمتها؛ فعندما لا يتحرك القادة نحو أهداف المؤسسة؛ فنحن أمام نمطين؛ إما قائد مغرم بالأغلفة والعناوين؛ فعندما يفقد القدرة على الغوص للأعماق فإنه يلقي لوم الفشل على أدوات الصيد، أو قائد أعمى يتحسس النتوءات حينما يفقد الحجة فلا يناقش الأفكار بل يهاجم أصحابها، وأشد ما يقضّ مضجع ذلك القائد الأفكار الجديدة، فيسعى لحرمان المرؤوسين من المعرفة، وخاصة ذوي الإنجاز منهم، كما ينظر لهم بعين الريبة فينشر الخوف من سطوته بين المرؤوسين؛ وبذلك يشتت طاقاتهم ويصرفهم عن تحسين الواقع؛ يقول الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان للحجاج عندما كتب له يشتكي أهل العراق «إن من قوة السائس أن يتآلف المختلفون ومن ضعفه أن يختلف المتآلفون».
وحتى نكون منصفين في حديثنا عن الرؤوس لا بد أولا من مراعاة الفوارق بين العقول التي تحتل مساحة من تلك الرؤوس، كما أن من المقاييس الحاكمة لذلك قدرة القائد على اختيار الحيّز الذي سوف يشغله ويقوده ففاقد الشيء لا يعطيه؛ فذاك في حد ذاته جدول آخر لحفز المنابع، وإثراء المصبات؛ ومما تترتب عليه سلامة السير على خريطة القيادة أيضا التخصص المعرفي في القنوات الفرعية للمؤسسة لأن المعرفة حينئذ هي المفتاح لاستقبال أفكار المرؤوسين ودعمها ثم فرضها؛ وعندما يتمكن القائد من المعرفة تتحقق القدرة على التحول في المؤسسة، وترسية قواعد العمل المؤسسي، حيث إن التحول يتم من خلال الاستراتيجيات وليس من خلال إطلاق القرارات الإدارية، ولابد من الإيمان بأن إصلاح قلب المؤسسة أولى من علاج أطرافها لأن خواء القلب مميت، ولأن الحصاد مرجعه إلى العمل وليس إلى الحقل، وكثير من القادة يتحركون ومناطيدهم محلقة في عالم النظريات، وغالبا هذا النمط تحتدم عنده الخطوط الحمراء وتصبح جبالا ووديانا؛ ويتعسكر الوعي أيضا، ويأبى الإطلالة على أي نافذة للتغيير استجابة من أولئك القادة للقوانين التي يلتقطونها خارج إطار مؤسساتهم.
وقد قال علماء مبرزون في علم الإدارة قبل طرحي المتواضع «إن أصحاب الكفاءة المتواضعة من قادة المؤسسات يستقطبون للعمل معهم من هم أقل منهم مهارة كما يظهروا بمظهر حسن ولا ينكشف جهلهم»، وأحسب أن ذوي الفكر والمهارة الذين يكثرون من رصد الثقوب في المؤسسة هم الأنفع على المدى البعيد للمؤسسة وللقادة أنفسهم؛ ولذلك فإن أفق قادة المؤسسات أفق يغوي بالتوغل إلا من رحم ربي؛ ورفع مستوى خطاب المسئولية دائما ما تقابله رياح محذرة بحكايات تساقطت من هنا وهناك؛ حتى أصبحت في بعض المؤسسات -ولن أعمم- شجرة عجفاء لا يستظل بها أحد، وإن سلمنا بحتمية التدوير والتغيير إيمانا بأن توجيه خطأ القرار له نتيجة أفضل من صوابه لأنه يأتي بعد تجريب وتجربة. وكما يُقال التجربة خير برهان، إلا أن الوهم أصبح يتلبّس الضعفاء من القادة لأنهم استمرأوا الكراسي!!
والله سبحانه وتعالى انطلق في تحديد معايير القيادة بالقوة ثم الأمانة قال تعالى {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (26 سورة القصص)??، إلا أن الوهم وهو من وجهة نظري المتواضعة من أشد مثبطات العمل المؤسسي، حيث يعاني أصحابه من أوهام التفوق والقوة ويقيّمون قدراتهم وفق حساب المدة التي اتكأوا فيها على تلك الكراسي، وإن كانوا لم يحركوا ساكنا، فإنه أيضا لم يحركهم ساكنا، وهذا من أقوى مؤشراتهم على التمرحل الوهمي!!
وأختم فلسفتي في القيادة بأن في خريطة القيادة الحقيقية ومعاييرها العميقة إشارات متفوقة وعلامات، تجعل الدروب أكثر ثراء وخصوبة، وتمهد للخطوات الناجحة في البناء المؤسسي بإصرار واستبسال، فلا بد من القضاء على الوهم الذي يلازم ضعاف القادة في بعض المؤسسات؛ والممارسات اللامسئولة لتنكشف الحقيقة، ولا تظل المؤسسات مشغولة بسطح القشرة فقط التي ترسم مصطلح القائد وتكتب فيه النظريات والأطروحات كما نظّرتُ أنا في هذا المقال عفا الله عني.