علي الصراف
لن يمضي وقت طويل قبل أن يستوعب العالم برمته، أن الإرهاب، ككل أعمال القتل التي عرفتها البشرية، ليس سوى لحظة جنون.
إنه لحظة جنون في الفكر، ليس لأنه يخرج عن السياق الطبيعي لكل فكر، بل لأنه «قفزة» صريحة في الفراغ، وأقرب ما تكون صرخة مجنون في سديم.
إنه لحظة جنون في المنهج، لأنه في الأصل بلا منهج. إنه مجرد عمل فوضوي، عبثي، ولكنه بخروجه عن التبرير يبدو سافلاً إلى حد يكاد لا يمكن تصوره من جانب أي إنسان سوي.
ولئن كانت الأعمال الإرهابية التي عرفتها الشعوب المختلفة لحظة جنون باتت عابرة في تاريخها، فإن ما نراه من أعمال إرهابية ليست سوى لحظة جنون عابرة في تاريخنا الراهن أيضا. ولكن ليس لأنه ينطوي على طبيعة بشعة، وليس لأنه يشكل خروجًا قبيحًا عن سياقات الصراعات عبر التاريخ فحسب، بل لأنه عديم القيمة أيضا، وعديم المدلول، وعديم الضرر وذلك بمقدار ما أنه عديم الفائدة أيضا.
إنه صفر تام. صفر مطلق.
لن يضر مسار أي أمة، أن يُقتل منها عشرة أو ألف أو مائة ألف. كما لن تنجرف السياقات الإنسانية، بتأثير بشاعة الإرهاب، لكي تتحول إلى جنون مماثل. هذا مستحيل، حتى مع بعض الانفعالية التي يمكن أن تطفو على سطح بعض ردود الفعل الطارئة.
ومثلما أن الموت لا يُخيف «الانتحاريين»، فالحقيقة هي أنه لا يُخيفنا نحن أيضا. لا يخيف حتى الضحايا أنفسهم، كما لا يخيف أي شعب أو أمة على وجه الأرض.
الموت حقيقة مطلقة. وملاقاته ليست بالشيء العجيب بالنسبة لأي أحد. إنه يحدث، كل ساعة وكل دقيقة وكل ثانية في كل مكان، لملايين الأسباب الإنسانية. وكلها أسباب «نبيلة» من طبيعة الحياة نفسها. ولهذا فإن الموت لا يُرعب أحدًا. (أيها الإرهابي: انزع هذه الفكرة من دماغك، إذا كان لديك دماغ)، ولكن ما يترك في النفس حزة ألم مرير هو أن الموت يجب ألا يأتي كجنون؛ ألا يأتي كانحراف صارخ للعلاقة بين الإنسان ووجوده.
نحن نموت بالأمراض والحوادث، أكثر بكثير مما يمكن لكل إرهاب أن يفعله.
ولكن الإرهاب يختار الجنون، لأنه لا يملك ما يجعل من وجوده هو نفسه أمرا مبررا. فقط هستيريا من العبث المطلق. والهستيريا لا يمكنها، كأي خلل عضوي، أن تؤدي إلى تغيير المسارات التي يسلكها البشر لجعل حياتهم ذات قيمة ومعنى.
اذهب لتقتل نفسك وتقتل عشرة أو ألف. ولكن ماذا بعد؟ ما الذي سوف يتغير حقا؟
لا شيء. حتى المرارة نفسها سوف تزول عندما تعود المسارات الإنسانية إلى طبيعتها.
شيء واحد لن يمكن للإرهابيين أن يفهموه، وهو أن الإرهاب يجعلنا أقوى، وأكثر تمسكا بالعقلانية، وأكثر إنسانية، وأكثر احتراما لمعنى وجود كل إنسان، وأكثر ميلا لحفظ قيم الخير والاعتدال والسلام واقتفاء المنطق في العلاقة بين البشر.
الحروب الكبرى نفسها، جعلت العالم يبتعد عنها، ويحصن نفسه ضدها باستمرار.
مع ذلك، فإن الإرهاب تحدٍ. هذا صحيح. إلا أنه تحد هزيل للغاية لقيم الخير والعدل والأمن والسلام.
انظر في تاريخ العقل، وستعرف كم أن الجنون لحظة عابرة. ومثلما أنه لم يغلب من قبل، فإنه لن يغلب من بعد. وإذ لم تتمكن أعتى الحروب بين البشر من تحويل الجريمة إلى سياق مألوف، فإن حربًا سخيفة كحرب الجنون، لن يمكنها أن تفرض على الناس أن يفقدوا عقلهم ولا أن يتخلوا عن قيم وجودهم، ولا أخلاقياتهم، ولا حقهم في العيش، كما في الموت، لصالح كل سبب نبيل.