د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
يُعدُّ إنتاج البحوث الجيدة معياراً من المعايير التي يُقاس من خلالها تطور الأمم ورقيها، ولا شك أنَّ المؤسسات العلمية والبحثية هي المسؤولة في المقام الأول عن قوة الإنتاج البحثي أو ضعفه في أي دولة، من خلال الاهتمام به، وتسخير الإمكانيات لخدمته، والعناية بقبول الجيد منه ونشره، والحزم في منع كل ضعيف متهافت يسيء إلى سمعة الوطن قبل المؤسسة.
والمتأمل في واقع بحوثنا العلمية، وما تُقدِّمه كثيرٌ من جامعاتنا يلحظ ضعفاً فيما تنتجه من بحوث ودراسات علمية، يفترض أنها اجتازت المناقشة والتحكيم، وقد تحدثتُ مراراً في مقالات سابقة عن أسباب هذا الضعف، وما يجب على المؤسسات الوطنية في مواجهته، ولعلي هنا أشير إلى بعض مظاهر هذا الضعف، وأكشف عن أبرز الصور التي يأتي عليها.
فمنها ما يتصل بالسرقة الفكرية، والإخلال بالأمانة العلمية، ففي بعض الباحثين جرأةٌ عجيبةٌ على السطو، وسرقة جهود الآخرين، وانتحال الأفكار والنتائج، ونسبتها بكل بجاحةٍ إلى نفسه، دون حسيب أو رقيب، وهي صورةٌ بشعة من صور الضعف العلمي والهوان الفكري الذي يعاني منه كثيرٌ من الباحثين اليوم.
والمصيبة أنَّ بعض هؤلاء الباحثين تأسَّس على هذه السرقات، فمنذ أن كان يُعدُّ بحوثاً تجريبية وهو يسرق أفكار الآخرين أمام الملأ، ويسطو على جهودهم في وضح النهار، فاستمرأ هذه الممارسات حتى صارت عادةً له وديدناً، لا يتورَّع عنها، ولا يفكر في عواقبها، وأيُّ عواقب يخافها وهو يظنُّ أنَّ ما يفعله هو البحث العلمي؟ لأنه تأسس على السرقة وتربى على السطو، ولم يجد مَن يوجهه وينبهه إلى خطورة هذا العمل، وما يمكن أن يترتب عليه من مشكلات قد تؤدي إلى إسدال الفصل الأخير من مسيرته البحثية أو الأكاديمية المخزية.
ثم أيُّ عواقب سيخشاها أمثال هؤلاء وهم لا يجدون مَن يُدقِّق في بحوثهم، ويختبر أمانتهم، ويتتبَّع سرقاتهم، ويتأكد من أصالة إنتاجهم وجِدَّته وابتكاره، إما بسبب المجاملات والرغبة في عدم الإحراج، أو بسبب الكسل والإهمال وعدم الجدية في التوجيه والإرشاد أو كشف التلاعب والسرقات، أو بسبب الجهل وقلة الثقافة وضعف الاطلاع، وكلها أسباب وعوامل تخدم هؤلاء اللصوص، وتسهم في انتشار هذه البحوث المسروقة التي تكلف المؤسسات والأوطان أموالاً وجهوداً لا تعود عليها إلا بالخسائر الفادحة والمصائب الفاضحة.
أضف إلى كل هذا عدم وجود إجراءات واضحةٍ صارمةٍ بحق لصوص الفكر حين يتم القبض عليهم متلبسين، ولو اتخذتْ المؤسسات العلمية ذلك بدلاً من مجاملتهم أو التستر عليهم فإننا سنتقدَّم خطوةً باتجاه الطريق الصحيح؛ لأنَّ ذلك سيساعد في تنظيف الأوساط البحثية والأكاديمية من هؤلاء اللصوص، ويسهم في الحدِّ من انتشار هذه الخيانات العلمية، وحينها لن يكون المكان متاحاً إلا للدراسات الجيدة الجادة الأصيلة التي تؤدي إلى إيجاد سمعةٍ طيبة للمؤسسة العلمية التي تصدر عنها.
ثم إن هناك مظهراً آخر من مظاهر الضعف لا تقل نتائجه عن نتائج المظهر الأول، يتمثَّل في سطحية كثيرٍ من البحوث المقدَّمة، وافتقادها للعمق والإبداع، وخلوِّها من التحليل الدقيق والابتكار والتأمل، فتُقدَّم «مسلوقة» دون طعمٍ ولا رائحة، والكارثة حين تمرُّ أمثال هذه البحوث - إن صحَّتْ التسمية - وتُجاز من قِبَل المحكمين، بل ويُمنح صاحبها الدرجة العالية والمنصب الرفيع ومرتبة الشرف، إن لم يتهور المناقشون فيوصون بطباعة الرسالة وتداولها بين الجامعات!!
والحقُّ أنَّ أمثال هذه البحوث تشكِّل نسبةً عاليةً من البحوث التي تُقدَّم في مؤسساتنا العلمية، ولا أرى سبباً لانتشارها سوى الضعف العلمي وعدم التأسيس الجاد والقوي، والجهل بأساسيات البحث العلمي وأهدافه وما ينبغي أن يكون عليه، إضافةً إلى التساهل والمجاملة وعدم الجدية في تقويم هذه البحوث والتوجيه بتعديلها، والحزم في رفضها وعدم قبولها حتى تنضج وتكون أكثر عمقاً وجِدَّةً وأصالة.
وإذا كان الباحث يجد هذه المواقف المتساهلة من المسؤولين فلا عجب أن يعمد إلى هذا (السلق)، خاصةً مع رغبته في الانتهاء مبكراً، والحصول على الترقيات سريعاً، دون أدنى اهتمام بجودة ما يُقدِّمه، فتمتلئ الرفوف بهذه الدراسات الضعيفة المتهافتة، وتتزاحم المكتبات بهذه الدراسات (المسلوقة)، وطبعي ألا يُحدِثَ ذلك أيَّ نوعٍ من أنواع التقدُّم العلمي والتطور والفكري.
أما الصورة الأخيرة التي يأتي عليها هذا الضعف فتتضح في تلك البحوث المكررة التي لا يأتي أصحابها بأيِّ جديد، معلوماتٌ مهترئةٌ قد أكل الزمن عليها وشرب، ودراساتٌ قُتلتْ بحثاً وانتهى زمانها، وبحوثٌ احترقتْ منذ أمدٍ بعيد.
ويُقال في أسباب انتشار هذا النوع ما قيل في النوعين الأولين، إضافةً إلى قلة الاطلاع وضيق الأفق، وعدم تأسي الباحثين على الابتكار والتجديد، وإهمال تدريبهم على الاستنباط والتفرد والاستقلالية، فتضحي بحوثنا نسخاً مكررة، لا تُقدِّم جديداً ولا مفيداً، مع غياب تام للمسؤولين عن منع هذا التكرار، بل ربما اعتيادهم عليه ورضوخهم له، منطلقين من قولهم (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق)، دون أن يستوعبوا أنهم بهذا الإهمال يتسببون في قطع كلِّ سبيلٍ للتطور الفكري والعلمي والحضاري كان يُرجى من وراء إعداد البحوث العلمية.