منذ منتصف القرن التاسع عشر اكتشف الرأسمال أن التطور سيؤدّي لا محالة للترابط الاقتصادي-السياسي بين دول العالم، لذلك وظف كل أدواته وخاض حروباً ساخنة وباردة ومخلوطة لوضع العولمة تحت الهيمنة المطلقة له. ولكنه فشل على جميع الصعد ويجر حالياً ذيول خيبته ويحاول جاهداً الحفاظ على ما تبقى. لذلك من الضروري الإجابة على السؤال: ما الذي تبقّى وإلى متى سيبقى؟
تحقيق ترابط اقتصادي- سياسي- اجتماعي (عولمة) يتحقق بوسيلتين لا ثالث لهما إما بالقوّة أو بالتراضي بين دول العالم. القوة تفترض ليس أحادية القطب، إنما هيمنة دولة واحدة على مقدرات كل دول العالم الأخرى. فعندما نقول إنَّ حلف الأطلسي أطاح بالاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، لم يتفرد بعد ذلك كحلف بقيادة العالم، إنما وظفت الولايات المتحدة دول الحلف كلها لخدمة المصالح الأمريكية.
الاتفاقيات الكبرى في العالم المبنية على أساس القوة المافيوية لا يمكنها أن تستمر، فها هو الاتحاد الأوروبي بدأ يتفكك وكذلك حلف الأطلسي بعد الانسحاب التركي غير المعلن، بل إن الولايات المتحدة مرشحة للتفكك بعد مطالبة ولاية كاليفورنيا بالانفصال، حيث إنها تحوي ثلثي الناتج القومي الأميركي وتعتبر أن بقية الولايات عالة عليها.
العولمة بالتراضي تعتمد مبدأ المصلحة المشتركة لجميع الدول المنضوية تحت رايتها. وقد بدأتها مجموعة من الدول في خماسي شنغهاي، الذي يضم كلاً من روسيا والصين وكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان عام 1996. ثم انضمت أوزباكستان في عام 2001 فأصبح اسم المجموعة (منظمة شنغهاي للتعاون)، وبعد ذلك انضمت لهذه المنظمة عدة دول على شكل أعضاء مراقبين، وهي مستمرة بالاتساع كالنار في الهشيم دون استحواذ على مقدرات أي دولة تنضم إليها، بل العكس تحظى الدول المنضوية تحت لوائها بميزان تجاري متصاعد ودعم لعملية التنمية داخلها دون ابتزاز أو شروط مسبقة.
اللافت في الأمر أن تركيا وهي عضو في حلف الأطلسي طلبت الانضمام لهذه المنظمة كعضو مراقب، وهو أمر له دلالات واضحة، فالحملة التي شنها الرأسمال ضد المنظمة - وخاصّة التشكيك في نواياها وجدواها - قد فشلت. كما أن انضمام تركيا ينبئ بخروجها من حلف الأطلسي ويفتح الباب امام تفكك دول الحلف الأخرى لتخرج من هيمنة الولايات المتحدة، وتتجه نحو الحاضنة التي تضمن مصالحها دون الاضطرار للتخلي عن أنظمتها الاقتصادية والسياسية. فهل سنسمع يوماً أن الولايات المتحدة نفسها انضمت إلى المجموعة؟ وهل نتلقف نحن هذه الفرصة ونبني صرحاً اقتصادياً واجتماعياً لا يخضع لمزاجيات الولايات المتحدة ويمنحنا الاستقرار الاقتصادي-السياسي، ويمنحنا كذلك الشروط اللازمة للتنمية المستدامة؟.
- د. عادل العلي