أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الهداية في لغة العرب بمعنى الدلالة على الشيء بلطف؛ فإذا قال الداعي {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [سورة الفاتحة/6]: فمعنى ذلك بينه لنا لنا ياربنا؛ ولكن جمهورا من العلماء يفسرون هذا الدعاء بمعنى طلب التوفيق لا مجرد البيان؛ والمعنى وفقنا لسلوكه مهتدين؛ ففسروا الآية بمعنى لا تدل عليه اللغة.
قال أبو عبدالرحمن: طلب هداية التوفيق استنباط صحيح إلا أن هذا المعنى المستنبط ليس مفهوما لغويا من كلمة {اهدِنَا}؛ وإنما هو مفهوم ضروري من سياق السورة؛ وبيان ذلك أن الله سبحانه وتعالى علمنا أن ندعوه بأن يبين لنا الحق؛ فقال آمرا لنا أن نقول: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [سورة الفاتحة/6] فلم نفهم من هذه الجملة من ناحية اللغة إلا معنى طلب بيان الحق؛ فهذا هو معنى الهداية، ثم فسر الله معنى الصراط المستقيم الذي طلبنا الهداية إليه بأنه صراط الذين أنعم عليهم؛ فلم نزل عند فهمنا اللغوي السابق بأن يبين الله لنا من هم الذين أنعم الله عليهم.. ثم وصف لنا ربنا المنعم عليهم بالضدية؛ وهم من سوى المغضوب عليهم؛ ومن سوى الضالين.. ثم بحثنا في الشرع فوجدنا الأحاديث (كحديث عدي بن حاتم، والآيات القرآنية كبعض سورة البقرة وفيها أن المغضوب عليهم اليهود الذين عرفوا الحق فلم يتبعوه، وأن الضالين النصارى الذين لم يهتدوا إلى صراط الله لجهلهم وضلالهم): أحاديث مقتضاها طلب البيان؛ وبهذا اتضح لنا: أننا ندعو ربنا ونطلب منه ثلاثة أمور: أولها أن يبين الله لنا الحق بدلالة اهدنا، وثانيها أن يوفقنا ويعيننا على سلوكه؛ لأن دعاءنا متضمن طلب العصمة من صراط المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق فلم يتبعوه؛ فتضمن الدعاء طلب التوفيق إلى السلوك بعد تبيان الصراط الذي نريد سلوكه.. وثالثها أن نطلب من ربنا أن لا نضل عنه بعد بيانه؛ فيلتبس بغيره؛ لأن دعاءنا متضمن طلب العصمة من صراط الضالين.
قال أبو عبدالرحمن: تأملت نصوص الشريعة فوجدت الهداية على أربعة أقسام: الأولى والثانية منهمن هدايتان كونيتان، والثالثة والرابعة هدايتان شرعيتان؛ فالهداية الأولى كونية فطرية كاهتداء الفرد لمعارفه الضرورية الفطرية، وكاهتداء الطفل إلى الثدي من سائر الأعضاء بفمه؛ ويدل على هذه الهداية قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [سورة طه/50] والهداية الثانية كونية قدرية ادخرها الله لعباده المؤمنين في الآخرة؛ وهي الإيصال إلى الجنة؛ ويدل على هذا قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [سورة الأعراف/43] يقولها أهل الجنة، وقوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [سورة محمد/5]؛ وقد بين الله هذه الهداية بأن يدخلهم الجنة ويعرفها لهم.. والهداية الثالثة شرعية يتفضل بها ربنا سبحانه وتعالى بدءا؛ وهي إنزال الكتب وإرسال الرسل؛ لتبيين مراد الله للبر والفاجر؛ وقد أخبرنا ربنا بأنه لن يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون؛ فهذا التبيان هو الهداية الشرعية.. والهداية الرابعة شرعية كلف العباد القيام بها؛ بأن يتعلموا فيعلموا فيجتهدوا؛ فيزيلوا عن بيان الشرع ما علق بالعقول من لبس في فهمه.. برهان ذلك قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [سورة السجدة/24].. واعلموا أيها الأحباب أن هناك نصوصا شرعية تضمنت الهداية الشرعية والكونية معا كآيات سورة الفاتحة، وكقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [سورة محمد/17]، وكقوله: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [سورة التغابن/11]، وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [سورة يونس/9]، وكقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [سورة العنكبوت/69]، وكقوله: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [سورة مريم/76]، وكقوله: {وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [سورة البقرة/213]، وكقوله {وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [سورة البقرة/213].. وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.