الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
من السلوكيّات المشينة التي حذّرت منها التعاليم الإسلامية «الحسد» الذي ورد في القرآن الكريم وأوضحت معاني آياته أنّه الخلق السيّء بتمنّي زوال النعمة من المحسود.
والإسلام سعى إلى طهارة البدن وطهارة القلب وهي الأولى. قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، والحسد من أمراض النفوس التي تصيب الإنسان نتيجة سيطرة القيم المادية وانهيار الأخلاق وضعف الإيمان، وهو يحمل كتمان الحق وإنكار الفضل، كما أنّه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. والحسد الذي يعد آفة للمجتمعات وفسادا للعلاقات، يورث العداوة والبغضاء بين الناس، ويولد الأحقاد والضغائن التي انتشرت بين الناس وظهرت أعراضه على المال والبدن والأبناء بحسب مكوناتها. «الجزيرة» استطلعت رؤى عدد من أصحاب الفضيلة وذوي الاختصاص للتحدّث عن هذا الجانب السلوكي المشين.
مرضى القلوب
بدايةً يصف فضيلة الشيخ الدكتور عبدالمحسن بن محمد القاسم إمام وخطيب المسجد النبوي أنّ الحسد خُلُقٌ ذميمٌ مُنعَتٌ دنيءٌ، يقصِد به الحاسد ذوي الفضائل والنِّعَم، اتصف به إبليس فامتنع أن يسجد لآدم حسدًا له: قال: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 76]، فكان أول ذنبٍ عُصِي الله به في السماء، وهو من صفات اليهود والنصارى، قال عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54].
وهو من أقوال مرضى القلوب: قال جل وعلا: {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} [الفتح: 15]، وقد يُؤدِّي بصاحبه إلى الكفر بالله: قال جل شأنه: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين} [البقرة: 34]، ويتمنَّى غير المسلم إخراج أهل الإسلام عن دينهم: قال عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم} [البقرة: 109].
وقد يمنع من الدخول في الإسلام: قال المِسْوَر بن مخرمة لأبي جهل: هل كنتم تتهمون محمدًا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: والله لقد كان محمدٌ فينا وهو شابٌّ يُدعَى الأمين، فما جرَّبنا عليه كذِبًا قط، قال: فما لكم لا تتبعونه؟ قال: تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الرُّكَب وكنا كَفَرسي رهانٍ قالوا: منَّا نبيٌّ، فمتى نُدرِكُ مثل هذه؟ ولله لا نُؤمن به، ولا نُصدِّقُه أبدًا.
وقد يقتل صاحبَه الآخرين: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ [المائدة: 27].
وهو فتنة لقلوب الناس: قال عز وجل: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا [الأنعام: 53]، قال ابن رجب رحمه الله: (الحسد مركوزٌ في طِباع البشر، والسعيد من سعى إلى دفعه)، وهو مُنافٍ لكمال الإيمان: قال عليه الصلاة والسلام: «لا يجتمعان في قلب عبدٍ: الإيمان والحسد»؛ رواه النسائي، وقد حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من هذا الداء، فقال لهم: «لا تَحاسَدوا، ولا تناجَشوا، ولا تَبَاغضوا، ولا تدابروا» [رواه مسلم].
خصال الشر
ويشير د. القاسم أنّ الحسد منبع الشرور، ويوجب الظلم، ويورث القطيعة، وليس في خِصال الشر أعدن من الحسد، ينتقم من نفسه بنفسه قبل أن يصل إلى المحسود، ومن رأى حال الحاسد في همِّه وغمِّه وكمَدِه أشفق عليه، والحاسد اشتغل بما لا يعنيه، فأضاع ما يعنيه.
الحسد رفعةً للمحسود؛ إذ النفوس لا تحسُد إلا العظيم، وكم من نعمةٍ خافيةٍ أظهرها حسود، وكم من عبدٍ أُثنِي عليه بعد أن حُسِد، حُسِدَ هابيل ابن آدم فبقيَ ذِكرُه يُثنَى عليه في كتاب الله.
وبحسب فضل الإنسان وظهور نعم الله عليه يكثُر حسدُ الناس له، وأعظم نعمةٍ يُحسَد المرء عليها هي نعمة الإسلام، قال - عز وجل -: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء} [النساء: 89].
والنبي -صلى الله عليه وسلم- حُسِد على القرآن: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم} [الزخرف: 31].
والمحسود مظلومٌ مأمورٌ بالصبر والتقوى، والعفو والصفح: قال -عز وجل-: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109]، ويوسف -عليه السلام- قال لإخوته: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92].
ونار الحاسد تُطفَأ بالإحسان إليه، وكلما ازداد شرُّ الحاسد فزِده إحسانًا ونُصحًا وشفقةً عليه، والحسدُ يمنع كمال الإيمان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه)؛ متفق عليه.
الحسدُ معصية يجب على المسلم أن يتوب منها، وأن يرضى بالقضاء، ويستسلم للمقدور، ولا يُعارِض الله في أمره، ويفرحَ بكرم الله على عباده، ويدفع عن قلبه تلك المعصية طاعةً لله وخوفًا من عقابه، وبُعدًا من أن يكره نعم الله على عباده، وأن ينظر إلى من هو دونه، ويتذكَّر نِعَم الله عليه، ويقنع بعطاء الله له، فكل حاسدٍ محسود، وأن يتعوَّذ بالله من الحسد، ويُبادر بالدعاء للمحسود، ويتمنَّى زيادة الخير لأخيه المسلم، ومن أعطى غيرَك نعمةً فهو قادرٌ - سبحانه أن يُعطِيَك مثلها وأكثر منها: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم ]الحديد: 21[.
والغِبطة حقًّا إنما هو في عطاء درجات الآخرة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ]النساء: 32[.
اعتراضٌ مقيت
ويؤكّد د. خالد بن عبدالعزيز الشريدة أستاذ علم الاجتماع بجامعة القصيم أنّ تاريخ الحسد متجذّر في النفس البشرية منذ قتل قابيل هابيل. بل منذ امتناع إبليس عن قبول تكريم الله لآدم !!
والحسد صفة إبليسية، فالذي منعه هو أنه احترق كيدا لتكريم غيره، وانتقلت الإبليسية للبشرية وحمل لواءها اليهود.
فحسدونا على أن منّ الله علينا من فضله «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله»، وكل حربهم علينا اليوم واتهامنا بكل شيء هو لإسقاط ديننا واعتزازنا بهويتنا.
وتمني زوال النعمة هو اعتراض مقيت على أقدار الله. وكأن الحاسد يقول لا أريد من الله أن يتم الثناء على فلان ولا أن يتم الله نعمته على فلان، ولذلك كان الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
كل نفس فيها حسد «ما خلا جسد من حسد» لكن هناك من يمسك ويعافيه الله وهناك من يعبّر عن ذلك حتى بهزة رأسه أو برفع حواجبه أو بهمزة أو لمزة. وهناك من يكتب بقلمه وهناك من يسخر إعلامه وأفلامه لتشويه صورة الدين والمواطنين.
اعتلال النفسية
ويبيّن د. الشريدة أنّه في كل مجال حسد في الوظائف والمعارف والأقلام والإعلام والرياضة والأناقة.
أقذع الحسد أن يكون ممن ينسب نفسه لأهل العلم إذ هناك من يجسّد الصفة الإبليسية في تتبع العلماء والدعاة والوشاية بهم والحط من أقدارهم، ولا شك عند رؤية من هذا نهجه فهي علامة على اعتلال نفسيته بالحسد. لأن دليل سلامة الصدر والانصاف كره الخوض في عثرات البشر. بل إن الحاسد لا يقبل إقالة العثرة «والله يحب العافين عن الناس» لكن الحاسد يعترض على هذه الصفة الربانية. والمشكلة هي تفسيره حتى للصواب بأن نية المصيب هي لغير الله وإنما لهواه. ويكفي هذه الشخصية المعلولة أنها تدعي علم السرائر الذي هو من خصوصيات الله «يعلم السر وأخفى».
لكن البشارة للمحسودين أن الله ينعم عليهم برفع درجاتهم وسمعتهم ويرزقهم من حيث لايحتسبون. فكل كلام في حقهم هو رفعة عند ربهم، مشيراً إلى عبقريات إبليس أنه يزين لهم الحسد لإسقاط العاملين بصدق لدينهم ووطنهم.. موحياً لهم أن هذا من أصول المعتقد؛ وما علموا أنه أصل الحسد والعيش النكد؛ الذي يتقلبون فيه وما هم بخارجين منه؛ إلا بسؤال الله بصدق العفو والعافية والسلامة في الدنيا والآخرة. حمانا الله وإياكم من شر الحسد ومن شر النفاثات في العقد.
الأوراد الشرعية
ويقدّم د. خالد بن عبدالرحمن الشايع الأمين المساعد للبرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصفة علاج الحسد والوقاية منه، حيث يقول: إذا وجد الشخص من نفسه ميلاً لحسد الآخرين والنقمة عليهم لما أنعم الله عليهم فإنه يحتاج إلى حوار ذاتي وعلاج وجداني يخاطب به نفسه ويحاسبها، ومن ذلك: أن يعلم الحاسد ما في الحسد من القبح والشناعة والنقص في الدين والدنيا، وأن فيه مشابهة لأهل الباطل الذين قال الله عنهم: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [سورة البقرة: 109].
فالحاسد يتضرر في دينه لأنه يعترض على الله في حكمه، كما أن حسده يؤدي به إلى نقص الحسنات واضمحلالها. كما دل عليه ما روى أبو داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» أو قال: «العشب».
وروى النسائي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يجتمعان في قلب عبدٍ: الإيمان والحسد» وحسنه الألباني.
فدنيا الحاسد كلها نكد وهَمٌّ وغَمٌّ، لا يرتاح له بال ولا تهدأ له نفس، فإذا علم الحاسد أنه بحسده هو المتضرر الأوحد؛ حمله ذلك على ترك الحسد ومجانبته. فيتبع شرع الله بحب الخير لإخوانه، ويعمل على قهر نفسه التي تدفعه للحسد حتى يروضها على الخير، وينقلها عن هذا الطبع اللئيم شيئاً فشيئاً، لأن تغيير الطباع شاق وعسير.
وبكل حال فمن وجد نفسه تكره الآخرين وتكره أن يكونوا في عافية وخير فعليه أن يسعى لتنقية نفسه وتطهير روحه بالإحسان إليهم حتى يضمحل الحسد ويزول.
وأما من خشي الحسد من الآخرين فعليه أن يتحصن بالدعاء والأوراد الشرعية ولأجل هذا شرع الله لعباده المؤمنين الاستعاذة به سبحانه من أهل الحسد لفظاعة سبيلهم، فقال سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [سورة الفلق].