د.خالد بن صالح المنيف
تتفاوتُ هواياتُ البشر، وتتباين اهتماماتهم؛ فمِن هواية ركوب الخيل وجمْع الطوابع، ومرورًا بالمشي والقراءة، برزَت لنا مؤخرًا هواية عجيبة إلا وهي صناعةُ النكد!
فحالة صاحب هذه الهواية النفسية متعلِّقة بممارستِها!
وصاحبُها ناقِمٌ حردٌ على الزَّمان والنَّاس!
تلك هي هوايةُ صناعة النكد!
صناعة النكد هوايةٌ لا تقتصرُ على عُمر معيَّن، ولا على شريحة محددة!
ربما كان زوجًا أو زوجة وقد يكون مديرًا أو صديقًا وربما كان أخًا !
وللأسف، إنَّ صُنّاع النكد يمارسونَ هواياتِهم على المقربينَ لهم ويخصُّونهم بها!
فيفيضُ شرُّهم وتثخنُ مخالبُهم وتفيضُ أمواج شرِّهم على أقرب النَّاس لهم!
مهارة صناعة النكد من أسوأ المهاراتِ التي تُكتسَب في الحياة، ومن أرذل الصِّفاتِ التي يتصفُ بها البعضُ!
ضيَّق الدُّنيا على نفسِه وعلى مَن حوله؛ فهو ضيِّق الصَّدر لايرضيه شيءٌ، ولا يعجبه اجتهادٌ, عاجزٌ عن صُنع الوضع الذي يرضيه؛ فيعزَّ عليه أنْ يسعَد من حوله ويأنسوا!
ولسان حاله: «أنا لكم بالمرصاد! وما دمتُ قريبًا منكم، وأنفي يشمُّ الهواء؛ فلن آلو جهدًا في إفساد أجوائكم وتشويه فرحكم»!
وصانعُ النكد مع الأيام وكثرة التجاربِ وعمق الخبراتِ يعلو كعبُه وتقوى ملكتُه فيها؛ فيمارسُها بخفة ورشاقة ومهارة عالية!
فهم اللعبة فأصبح يتفنَّن في الأساليب وينوِّع في الوسائل؛ فكلُّ موقف له تكتيك معين، ولكلِّ شخص له تنكيدة تناسبه ودونك بعضَ أساليب صنّاع النكد:
1 - تضخيم الأمور، وتهويل الأحداث؛ فلو حدث أمرٌ بسيطٌ يضخِّمه حتى يفزع ضحاياه ويسلبهم أُنسَهم!
2 - النكديُّ يَستخدم أحداثَ الماضي السيئة كوسيلة تنكيد مضمونة، فيذكِّرك بإخفاقكَ الدراسيِّ، أو بتجربة الزواج التي ما وُفِّقْتَ فيها!
3 - ومن باب التنويع في الأساليب يستخدم الشخصنةَ؛ فإذا ما تصرَّفْتَ بما لا يروقُ له تعلَّقَ في رقبتكَ قائلًا «أنت مستقصدني»! وإذا تحدثتَ بحديث عامٍّ حلَّلَه على مزاجه وفزع كالملدوغ وقال: «الكلام هذا موجَّه لي!»
4 - صانع النكد يستعين أحيانًا بعنصر المفاجأة وذلك عن طريق تقمُّص دور الضحية والشهيد الحيِّ، فما يلقاكَ? وبثَّكَ علة طارئة وطالعكَ بشكاة جديدة، وأنَّ الكلَّ مقصِّرٌ في حقه فيفقدكَ سروركَ ويسلب منك ابتسامتكَ.
5 - صانع النكد أحياناً يتقمَّص دور الناصح الطيب فينقل لكَ الأخبارَ السيئة، ويروي لكَ ما سمعه من قالة السُّوء عنه.
6 - صانع النكد له عينُ ذباب؛ فيحاول أنْ يفتش عن مواطن الضَّعف وزوايا الخلل!
وصانع النكد يتفنَّن في تعذيب ضحاياه؛ فهو تارةً يثب ومرةً يحجل، ومرَّة ينصح وأخرى يسخر, وربما نظَم الدُّرر ثم رمى بالشَّرر!
وحسب الموقف يتصرفُ؛ فأحياناً تراه في رقة العصافير، وفجأة في شراسة الضَّبع!
وصانع النكد لديه احتياج داخليٌّ فإذا ما ثارت نفسُه واضطرمَت روحُه، فلن يقر لها قرارٌ ولن تستريح إلَّا بجرعة نكد!
صانع النكد إنْ قلتَ له: «أبشرك نقصتُ (3) كيلو في شهر»، قال: «غيرك ينقص 10!»
وإنْ قلتَ له: «قرأتُ خلال أسبوع كتابًا»، ردَّ عليكَ: «أنا أقرأ ثلاثة كتب!»
وإنْ زارك في بيتك الجديد قال: لماذا الحديقة كبيرة؟ والشوارع صغيرة؟ والمجلس ممتاز! لكن (ولكن تجُبُّ ما قبلها) ألوانَه أبدًا غيرُ مناسبة! حتى يكرِّهَكَ في بيتِكَ وتتمنى أنكَ لم تسكنْه!
وعندما تشتري سيارةً جديدة فرحًا جذلًا يعزُّ على صانع النكد هذا السُّرور! فتتهلّل أساريرُكَ عندما يقول:»سيارة جميلة!» لكنه يكرُّ عليكَ ويعود ويسلب فرحتكَ بسرعة ورشاقة ويقول: «لولا اللون السيئ!» واستغرَبَ كيف اخترتَ هذا اللون؟! وربما تحدثكَ نفسُكَ بعدها أنْ تدَع السيارة في أيِّ شارع وتتخلّصَ منها!
وتقابلكِ امرأةٌ وقد تزيَّنْتِ بساعة كنتِ تُمنّينَ النفسَ بها كثيرًا حتى يسَّر الله لكِ شراءها، فتتلهفين لكلمة إعجاب أو نظرة ذهول منها, فتبدأ بسؤالكِ بكم اشتريتِها؟
وأنتِ بقلب سليم تخبرينها بالمبلغ مباشرة!
فتصيح بصوت أوبراليٍّ مستفز: «لعبوا عليكِ!» طبعًا دون أيِّ تثبُّت! عندها ربما يمتلئ قلبُكِ غيظًا على مَن باعها لكِ!
وأحدُ صنّاع النكد تذهب زوجته لمناسبة؛ فيتصلَ عليها يسأل عن عقاله؟ وهو مَن ضيّعه! ويبدأ في رفع الصوت فيفسد عليها الجوَّ، وتقول الزوجة في نفسها: «لا عادت مناسبة!» والهدف هو التنكيدُ وليس العقال!
وبعضُ الأزواج من شدة عشقه للبؤس والضيق لا تراه إلَّا مقطبًا معاديًا للابتسامة «لا يضحك للرغيف السخن» كما يقول المثل المصريُّ الشعبيُّ, يطرب إذا نكَّد على زوجتِه وأفسدَ عليها يومَها هدفُه تحويلُ حياتها لجحيم ولا حول ولا قوة إلَّا بالله! فيدفعه فشلُه وضعفُه وأفقُه الضيق أنْ ينفِّس على زوجته وأولاده بالتنكيد عليهم!
أمَّا صانعة النكد، فعندما يسافر زوجها وتشعر في لحظة أنه مسرور تغلي من الداخل وتشرع في التنكيد عليه باحترافية! وتتنوّع أساليبُ الزوجاتِ في النكد؛ فتتراوح بين النظرة الباردة، والوجه المقطّب والجلوس وحدَها وعدم المشاركة في أكل وشرب وإهمال تامٍّ للمنزل ولشكلها ومظهرها مع انفعال دائم وصراخ مستمرٍّ، وهذا الأسلوب بدائيٌّ نتيجته انفجارُ الشريكِ وهدم بنيان الأسرة!
وبالمناسبة، فإنَّ الزوج في الموقف الأول والزوجة في الموقف الثاني قادران على التصرف في موقف أصعب بكثير من تلك المواقف وأكثر تعقيدًا، ولكنَّ الهواية السيئة تجري في دمائهم!
قديماً قال (إيليا أبو ماضي): «عندما ينام العقلُ يستيقظ الحيوانُ الراقدُ في الإنسان؛ فيصير نزاعًا للعنف والقسوة والتخريب»! وتلك عقلية صانع النكد!
عقولٌ تحتاج لتهذيب أفكار، وقلوبٌ تحتاج لتطهير!
صانعُ النكد يعطِّل الحياة ويقصِّر الأيام، لا يستمتع بالجميل ولا يدع غيرَه يستمتع!
صانعُ النكد يعشقُ تكديرَ الأجواء وتشويه الجمال وتعكير الماء الزلال وتنغيص النفوس!
صانعُ النكد لا يؤمَن جانبُه ولا يُطمأنُّ له, فربما أبدى لك بشاشةً ولكن هوايته مقدَّمة على كلِّ قيمة ومبدأ!
فصناعةُ النكد أولى من جلب المتعة والاستمتاع باللَّحظة وأهمّ من زرع السرور في قلوب مَن حوله, فاحتياجاته المريضة لا تُشبَع إلَّا بشوط (نكد) يلعبه بمهارة!
وإرضاءُ صانع النكد يتعذَّر في كثير من الأحيان فهو جسرٌ لا يُعبَر وعقبةٌ لا تُرتَقى!
وبعضُ صنّاع النكد لا يُشَقُّ في الحمق غبارُه، ولا يُلحَقُ في الصَّلف فرسُه!
صانعُ النكد دائمُ التقطيب سريعُ الغضب, سمجُ المزاج, شحيحُ الثناء، جافُّ الطبع، كثيرُ الانتقاد!
لا يتعاظمه أمرٌ، ولا يقف دونه غايةٌ في سبيل التنكيد!
وصانعُ النكد إنْ كان شريكَ حياتِكَ فهو كقطعة من الجحيم وهو أثقلُ على شريكه من كابوس، وأكثفُ من ضبابٍ.
فما يفتأ يتولَّى شريكه بوجه عبوس تكاد تتمثّل فيه برقًا ورعدًا ومطرًا!
وصانعُ النكد يضطلع بمهمته? غير كلفة وعناء! وللعظيم العظائمُ!
يختار أوقاتَه بعناية فائقة؛ ضمانًا لنجاح مهمته فيركز على:
* وقت انشغالِكَ،
* ساعة فرحِكَ،
* لحظاتِ ضعفِكَ وانكسارِكَ؛ فيزيدكَ ألماً على ألم.
أمَّا التعامل مع النكديِّ فعلى النحو الآتي!
1 - لا تعطِه أكبرَ من قدْره، ولا ترفَع من شأنه، ولا تمكِّنْه من نفسِكَ.
2 - حاول أنْ تتجنبَه ولستَ مضطرًّا أنْ يطَلِع على تفاصيل حياتكَ.
3 - لا تطِل من الجلوس، ولا تفسح له المجالَ ليمارس هواياته, غيّر الحديث أو غادِر المكان.
4 - حاوِل أنْ تجعل منه إنسانًا أفضلَ، ولكن لا تهدر جهدكَ ووقتكَ في إصلاحه.
5 - تعامَل معه كشخص يشكو علة نفسية؛ فهو جديرٌ بالرَّحمة والشَّفقة.
6 - لا تعلِّق حياتَكَ أو حتى يومك بمزاج النكديِّ؛ فالحياة أجملُ بأنْ تتمحور على سوء فعلِه أو سقم رأيه.
وهل منكم مَن يحمل هذه الصفة؟
أرجوكم توقفوا! فإنها - والله - صفة سيئة، تضيع الأعمار، وتستنزف الجهودَ،، وتوتِّر العلاقاتِ.
ومضة قلم
من علامات رقة القلب ورهافة الشعور وكمال الشخصية أن يكون إحساسك بالآخرين وحرصك على عدم الاعتداء عليهم يوازي حرصك على حماية مشاعرك.